«بعد في رئيس الجمهورية ومدير البنك ما طلعوا معي»، يقول أحد سائقي الحافلات الصغيرة (الفان) ممازحاً، وليؤكد استقباله طبقات اجتماعية لم يعتَدْها سابقاً. وجوه الركاب الجدد في الحافلات الصغيرة ليست إلّا واحداً من تغيّرات عديدة طرأت على مشهد النقل العام في لبنان؛ منها التخلّي عن النقل تماماً، أو الاقتصاد في المشاوير
على غير عادتها، خلت محطة «الكولا» من ركابها المعتادين، نهار الجمعة، اليوم الذي يتوجّه فيه أغلب الشبان وسكان الأطراف إلى بلداتهم البعيدة. خفتت الأصوات، وانخفض معها ضجيج الحافلات وأصوات أصحاب «الفانات». مشهد استجدّ في المنطقة، لينضمّ الى مفاعيل الأزمة الاقتصادية الخانقة، تقف خلفه أسباب متعدّدة؛ منها هجرة العديد من الركاب من ذوي الدخل المحدود، ولا سيّما الشباب منهم، هذه الحافلات، وخسارة البعض أعمالهم في العاصمة، واختيار كثيرين البقاء في منازلهم لعدم امتلاكهم أجرة التنقل.
ينسحب هذا المشهد داخل العاصمة وضواحيها، بعدما أضحى ترفاً على بعض الفئات المهمّشة أن تستقلّ الحافلات الصغيرة، مفضّلة السير على الأقدام للوصول إلى أعمالها. وبات مألوفاً معاينة مجموعات، أغلبها من الفئة الشبابية، تسير على جوانب الطرقات، تحت أشعة الشمس الحارقة، متوجّهة إلى أعمالها. وإن كانت محظوظة، يرأف بحالها سائقو الحافلات، ويتقاضون منها مبلغاً رمزياً قد يصل إلى عشرين ألفاً على سبيل المثال، لستة أشخاص، كما يُسرّ لنا بعض هؤلاء.
وجوه جديدة
نزوح هذه الفئة عن النقل المشترك، قابله دخول مستجدّ للطبقات الوسطى إليه. وجوه جديدة لم تألفها الحافلات الصغيرة (الفان) من قبل، تبدو عليها حالات الضياع، كما يصف أغلب سائقي هذه الحافلات لـ«الأخبار». ضياع يتمثّل بجهلهم مسار الحافلة ومحطاتها، وسؤالهم عن التعرفة المطروحة حالياً للراكب الواحد. منهم من قرّر ركن سيارته جانباً و«اختبار» تجربة ارتياد «الفان» للمرة الأولى في سبيل الوصول الى عمله، توفيراً للمحروقات ودرءاً لأيّ تكاليف محتملة في حال تعطّل السيارة.
هذا التغيّر في أحوال الركاب، الذي نستدلّ إليه من جولة على عدد من محطات الحافلات في العاصمة وضواحيها، يوافق عليه سائقو الفانات. يروي لنا أحد سائقي الحافلات المتوجهة إلى منطقة البقاع، أن 90% من الموظفين باتوا يستقلون الفان، ومنهم من بات يطلب أرقام السائقين ليقصدوهم إلى منازلهم ويوصلوهم إلى أماكن أعمالهم. ويلفت في المقابل إلى أن الطلاب وذوي الدخل المحدود المقيمين في الأطراف، خفّضوا عدد تنقلاتهم لتصبح مرة في الأسبوع.
أتاح هذا الأمر «لقاء» بين الطبقات إن صحّ التعبير، وسجّل أيضاً تضامناً اجتماعياً لافتاً بين السائقين والركاب من ذوي الدخل المحدود، الذين يعفون أحياناً من دفع الأجرة، وخاصة الطلاب منهم. يقول أحد السائقين «بطلّع مين ما كان حتى لو كنت خسران، ومكسور على دفع إيجار بيتي».
تغيّر مؤقت
يضع خبير النقل علي الزين هذا التغيّر ضمن الإطار الظرفي المؤقت، مؤكداً أن «اللبنانيين ومع رفع الدعم على المحروقات، قرّروا التأقلم مع هذا الواقع، لا الانتفاضة عليه، مع إبقائهم على خيار التنقل بالسيارة بالدرجة الأولى، أو ركنها جانباً في ظل هذه الأزمة، واللجوء الى النقل المشترك، أي أنّهم لم يتخلّوا عن السيارة بشكل جذري»، ويحيلنا الزين إلى تجربة البلدان التي اختبرت أزمات اقتصادية مماثلة، وعودة سكانها إلى السيارة بعد انتهاء أزمات بلادهم. وعلى الرغم من الإهمال الذي يصيب قطاع النقل المشترك، والفوضى التي تعمّه، وحتى خدمته السيئة، فإن الطبقة الوسطى برأيه قرّرت اللجوء إليه، وخاصة من فئة النساء، بعدما تركن سيارات الأجرة (التاكسي)، أو حتى سياراتهن الخاصة.
وفي ما خصّ إقصاء الأزمة الاقتصادية فئة ذوي الدخل المحدود عن ارتياد النقل المشترك، يشير الزين الى فئات اجتماعية بات واقعاً تسميتها بالفئات غير المتحرّكة (immobiles)، أي تلك التي ظلّت قسراً في منازلها، لعجزها عن دفع تكلفة التنقل، فأوقفت العديد من نشاطاتها الاجتماعية. هؤلاء برأيه خسروا حقهم بالتنقل، وبالتالي زاد تهميشهم ورُسّخت بالتالي اللاعدالة الاجتماعية. ويلفت الزين، بناءً على دراسة يعدّها (عيّنة من 500 شخص من المقيمين) ضمن بحث أشمل عن تأثير نظام النقل العام في لبنان المتعدّد الأبعاد، الى أن «تأثر استخدام النقل المشترك في التنقلات غير الملزمة (زيارات، ترفيه، استهلاك…) بات أكثر من التنقلات الملزمة بين مكان السكن والعمل أو الدراسة». أما عن رأي الركاب، فيلفت إلى أن «غالبية مستخدمي النقل المشترك يصرّحون بأنهم يعتبرون أنفسهم متضرّرين من مفاعيل الأزمة المعيشية عليهم وبشكل رئيسي على قدرتهم الشرائية والمستلزمات الأولية، وأكثر من ثلثي مستخدمي النقل المشترك صرّحوا بزيادة الإنفاق على النقل مقارنة بفترة ما قبل الأزمة».
«حقوق الركاب»: تبعات إيجابية
التغيّر الحاصل في قطاع النقل العام، خلّف إيجابية يعبّر عنها رئيس جمعية «حقوق الركاب» شادي فرح لـ«الأخبار». الجمعية التي تعنى بتشجيع الناس على ارتياد وسائل النقل المشترك، والعمل على إصلاحه، وجدت أنّ الأزمة الحالية غيّرت في الكثير من المفاهيم والعادات. ويعدّد فرح وسائل نقل لجأ إليها اللبنانيون بعد غلاء المحروقات كـ«التوك توك» و«السكوتر»، والدراجة الهوائية، فتغيّرت بالتالي أنماط التنقل، بعدما زادت كلفة النقل إلى أكثر من 500%.
لعلّ النقطة الإيجابية هنا، الدخول غير المسبوق على موقع الجمعية (سجل أكثر من 100% من الزيارات)، التي طرحت عام 2015 مشروع «Bus Map Project» (سجل أكثر من 10 آلاف مشاهدة خلال العام الحالي) وهو عبارة عن خريطة للباصات والفانات في بيروت الكبرى. تلقّت الجمعية العديد من الاستفسارات في الفترة الأخيرة عن مسارات هذه الحافلات، والمناطق التي تقصدها. كما أنشأت الجمعية مجموعة خاصة على «واتسآب» انضمّ إليها، إلى اليوم، حوالي 200 شخص، تسهم في مساعدة الركاب لمعرفة المسارات الطرقية التي سيسلكونها. يرى فرح في هذه الحركة، منحى إيجابياً في خلق مجتمع خاص بالركاب، يعبّر عن مدى اهتمامهم بهذا القطاع. وأيضاً، تنسحب هذه الإيجابية على القطاع بكسر النمطية السلبية الموسوم بها، والذي ينظر إليه البعض بدونية، ويختزلونه بركابه من «الشغيلة» بحسب قوله (يشكل الأجراء والعمّال والموظفون من القوى العاملة ثلث مستخدمي النقل المشترك)، وما يستتبع ذلك من أحكام مسبقة على نظافتهم الشخصية والخوف من الاختلاط بهم! إذاً، يرى فرح في هذه الأزمة تحوّلاً «طبيعياً» بين الطبقات الاجتماعية، واسترجاع قطاع النقل العام لمجاله ودمج الناس ببعضها البعض «لتحسّ ببعضها».