لا تُخفي الولايات المتحدة هدفها الاستراتيجي في إعادة توزيع الطلب العالمي على الطاقة لصالح منتجيها المحليِّين. تتنافس الصين والهند على خصومات جديدة لشراء النفط والغاز، بينما تواصل روسيا، المعزولة والتي لا يمكن الإستغناء عنها في آنٍ واحد، توظيف «فنّ الممكن» لصالح اقتصادها.
عاد النفط والغاز إلى صلب النقاش حول الحرب والسلام، ليس فقط كسلع، بل كمفاتيح لتوزيع القوة والسيادة والميزانيات المستقبلية. وتُحرِّك واشنطن، ممثلة في إدارة دونالد ترامب، هذه الديناميكية عبر زيادة الضغط على أوروبا.
تتركّز المطالب الأميركية في نقطتَين رئيسيّتَين:
1- تسريع تحوّل الاتحاد الأوروبي بعيداً من الطاقة الروسية.
2- فرض رسوم جمركية على الصين والهند اللتَين تواصلان شراء النفط الروسي.
وافقت بروكسل ضمنياً على المطلب الأول، من خلال توقيع اتفاقيات لشراء النفط والغاز الطبيعي المسال الأميركي بقيمة 250 مليار دولار، إلّا أنّ التنفيذ يواجه تحدّيات كبيرة تحت ذريعة حرّية التجارة. أمّا المطلب الثاني، فمعلّق بوضوح، إذ إنّ فرض رسوم مرتفعة على الصين والهند – أكبر شركاء الاتحاد الأوروبي بعد الولايات المتحدة – قد يضع أوروبا بين المطرقة والسندان، إذ ستؤدّي الإجراءات الانتقامية إلى أضرار بالغة للاقتصاد الأوروبي.
ومع ذلك، يستفيد ترامب من الضغط على أوروبا عبر:
– إقصاء روسيا نهائياً من سوق النفط والغاز الأوروبية، ممّا يُتيح للشركات الأميركية احتكار السوق عبر عقود ملموسة وتحميل محطات الغاز الطبيعي المسال في خليج المكسيك.
– تعزيز النفوذ في المفاوضات مع موسكو، خصوصاً عبر التحكّم في خطوط أنابيب الغاز التاريخية مثل «نورد ستريم» و»يامال-أوروبا» و»دروجبا»، ممّا يمنح واشنطن رافعة للتأثير على تدفّقات الطاقة الروسية إلى أوروبا.
تسعى الولايات المتحدة إلى إعادة توزيع التدفقات والتعريفات والهوامش في سوق الطاقة، خصوصاً مع توقّع انخفاض الطلب الأوروبي، ممّا يمنح المنتجين الأميركيين مجالاً أوسع للمناورة.
السيناريو الأوروبي-الآسيوي: مواجهة اقتصادية محتملة
من المحتمل أن تُجَرّ أوروبا إلى مواجهة اقتصادية مع الصين تحت شعار معاقبة روسيا. في هذا الإطار، يُسرّع الاتحاد الأوروبي انتقاله بعيداً من الموارد الروسية، ويفرض قيوداً على المنتجات البترولية القادمة من الهند وتركيا المصنّعة من مواد خام روسية، ويزيد الرسوم الجمركية على الواردات الصينية.
عملياً، يعني هذا التوجّه تقويض قاعدة أوروبا الصناعية، إذ ستصبح المواد الخام والمكوّنات أغلى، وستُغلق أسواق التصدير، ممّا يُسبِّب أضراراً بالغة للاقتصاد الأوروبي، وسيكون أي انتصار محتمل وسط أنقاض الصناعة المحلية.
روسيا: مشكلة وفرصة في آنٍ واحد
تُشكّل روسيا مشكلة وفرصة في الوقت عينه لقطاع الطاقة الأميركي. فقد أعلن الرئيس التنفيذي لشركة «إكسون موبيل»، دارين وودز، أنّ الشركة لا تعتزم العودة إلى روسيا، مع تركيزها على مفاوضات مصير أصول بقيمة 4,6 مليارات دولار وليس على استثمارات جديدة.
لكن في الكواليس، هناك اتصالات سرّية بين «إكسون» و»روسنفت»، واجتماعات على مستويات عليا، بالإضافة إلى إشارات إيجابية من واشنطن بشأن العودة إلى مشروع سخالين في روسيا، ممّا يعكس رغبة مهندسي قطاع الطاقة الأميركي في إبقاء الأبواب مفتوحة لإعادة التعاون في حال تغيّرت الظروف.
موقف اليابان ودور أوروبا الداخلي
ترفض اليابان رفع الرسوم الجمركية على الجزيئات الروسية المستوردة إلى دول ثالثة، مستندةً إلى التزاماتها تجاه منظمة التجارة العالمية، وذلك لحماية مصالحها الاستراتيجية في الغاز الطبيعي المسال ومشاريع مثل سخالين-2.
داخل الاتحاد الأوروبي، تتباين المواقف بين «المركز» (بروكسل والدول الغربية) و»الأطراف» مثل سلوفاكيا والمجر التي تخشى التخلّي السريع عن النفط الروسي بسبب نقص البنية التحتية البديلة. وعلى رغم من إعلان رئيسة المفوّضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين تسريع التخلّص من الوقود الأحفوري الروسي وتقديم حزمة عقوبات جديدة، فإنّ المفاوضات حول استثناءات خاصة لا تزال مستمرّة.
تُظهر التجربة أنّ السوق تعلّمت التحايل على القيود عبر استثناءات وشبكات مالية معقّدة، وتميل الصناعة إلى تفضيل استمرار استخدام «غاز اليوم» بدلاً من الاعتماد على وعود التحوّل المستقبلي.
الطاقة في قلب الاستراتيجية العالمية
تظل روسيا هدفاً للضغط لكنّها عنصر لا غنى عنه في سوق الطاقة، إذ لا تختفي البنية التحتية التي بُنِيت على مدى عقود بمجرّد بيانات سياسية. يُقدِّم الغاز الطبيعي المسال الأميركي مزايا عديدة لكنّه لا يعفي الصناعة الأوروبية من تكاليف الانتقال والتحدّيات الجغرافية والموسمية. وتؤكّد المفاوضات السرّية والصفقات التجارية، أنّ الطاقة ليست مجرّد أداة سياسية، بل إطار أساسي للصراع والتفاوض.
إذاً، تواجه أوروبا معضلة حقيقية بين التحوّل السريع عن الطاقة الروسية مع حرب الرسوم الجمركية مع آسيا، ممّا يُشكّل ضربة موجعة للصناعة، وبين التحوّل الأبطأ الذي قد يؤدّي إلى فقدان التأثير السياسي في المفاوضات مع الولايات المتحدة.
تواصل الولايات المتحدة حزمها في إعادة توزيع الطلب العالمي على الطاقة لصالحها، وربط حلفائها بالبنية التحتية الأميركية، في حين تستغل آسيا فرص المراجحة السعرية، وتتنافس على خصومات، وتستمر روسيا في توظيف «فنّ الممكن» للحفاظ على اقتصادها والمنافسة في السوق.



