تبدو القرارات الاقتصادية للرئيس الأميركي المنتخب جو بايدن، محمّلة بإرث ثقيل من الأعباء التي خلّفتها سياسات الرئيس دونالد ترامب المنتهية ولايته، لا سيما الخارجية، والتي أدخلت واشنطن في حروب اقتصادية، ليس مع الصين فحسب التي تتخوف أميركا من صعود نجمها الاقتصادي بشكل أكبر، وإنما مع العديد من القوى الاقتصادية، خاصة الأوروبية التي ظلت لعقود طويلة في تحالف تجاري وثيق مع الولايات المتحدة.
ويمثل فوز بايدن في الانتخابات فرصة لمحو بصمات ترامب، التي تسببت في أكبر تحوّل في سياسة الولايات المتحدة التجارية منذ الحرب العالمية الثانية، بعد أن فرض التعريفات على المنتجات الواردة من الصين، ومن أكبر حلفائه؛ كندا والمكسيك والاتحاد الأوروبي.
ومع تعهّده برأب الصدع في العلاقات مع الحلفاء، ينوي بايدن دراسة إلغاء التعريفات التي فرضها ترامب عليهم، من أجل تكوين جبهة موحدة للوقوف أمام المد الاقتصادي الصيني.
ويقول جيك سوليفان، كبير مستشاري بايدن السياسيين، في تصريحات إعلامية مؤخرا، إن “المنطق يملي علينا استخدامات أكثر جديةً وثباتاً لما لدينا من أدوات، بدلاً من التهديدات والبلطجة”.
وفي الوقت الذي يرث فيه ساكن البيت الأبيض الجديد تركة مثقلة بتعريفات على ما يصل إلى ثلثي مشتريات الولايات المتحدة من الصين، وجولة أولى من اتفاق يشمل تعهد الصين بشراء منتجات بقيمة 200 مليار دولار من الولايات المتحدة لم يتم تنفيذ ربعه حتى نوفمبر/تشرين الثاني الجاري، ينصح رؤساء الشركات الأميركية بايدن بـ”تخفيف بعض التعريفات المفروضة على المنتجات الصينية، من أجل ضمان تعاونها في قضايا أكثر حيوية، مثل التغير المناخي والضغط على إيران لوقف برنامجها النووي”.
لكن يد بايدن لن تكون، وفق نواب أميركيين، طليقة في إلغاء التعريفات التي فرضها ترامب، خاصة أنها تحظى بتأييد العديد من أعضاء الكونغرس من الحزب الديمقراطي الذي ينتمي إليه بايدن.
وقبل فترة، أبدى السيناتور رون وايدن، أعلى ديمقراطي في اللجنة المالية بمجلس الشيوخ، استعداده للعمل عن كثب مع إدارة بايدن حال فوزه في الانتخابات، مؤكداً في نفس الوقت، لجريدة وول ستريت جورنال، قبل أيام أنه “يتعين التمسك بكل الأدوات المتاحة من أجل حماية العمال الأميركيين من اتفاقات التجارة التي تسلبهم حقوقهم، بما في ذلك التعريفات الجمركية”.
وعلى صلة بالسياسة التجارية، يبدي بايدن مواقف أكثر تفهماً وتعاوناً مع المنظمات الدولية، وعلى رأسها منظمة التجارة العالمية. وبعد أن شلت إدارة ترامب قدرة منظمة التجارة العالمية على الحكم في النزاعات التجارية من خلال منع تعيين قضاة الاستئناف، أكد أحد مستشاري بايدن نية الأخير إنهاء الحصار على المنظمة الدولية.
وتبدو توجهات بايدن أكثر أريحية للشركات والمستثمرين الأميركيين الذين طالما روج ترامب على أن سياسته تخدم مصالحهم بشكل كبير.
وفاقمت جائحة فيروس كورونا الجديد، حدة الصراع التجاري بين الولايات المتحدة والصين، بينما كان البلدان قد اتفقا، مطلع العام الجاري، على هدنة تجارية بعد أكثر من عشرين شهراً من المفاوضات الماراثونية بينهما لوقف حرب الرسوم الجمركية الانتقامية المتبادلة واستهداف الشركات الكبرى.
واعتبر ترامب، عقب إبرام المرحلة الأولى من الاتفاق التجاري في يناير/كانون الثاني الماضي، أن الاتفاق يمثل انتصاراً كبيراً لسياساته، ويعوّض آلاف المزارعين من ناخبيه المتضررين من الرسوم الجمركية الصينية، إلا أن الصين خرجت ممسكة بأوراق ضغط كبيرة، لا تقل أهمية عن المكاسب التي قالت الولايات المتحدة إنها حققتها من وراء الضغط الذي مارسته على بكين.
وبدت الصين في موقف أكثر قوة، إذ سرعان ما طوقت تداعيات الوباء وأعادت الاقتصاد إلى عجلة الإنتاج. وكانت الصين، حيث بدأ الوباء في ديسمبر/كانون الأول الماضي، أول اقتصاد يتعرض للإغلاق، لكنها أعلنت الانتصار على الوباء في مارس/آذار، حيث أعيد فتح المصانع وأبراج الشركات ومراكز التسوق، وأصبحت أول اقتصاد يعود إلى النمو بنحو 3.2% في الربع الثاني من العام، مقابل انكماش بنسبة 6.8% في الربع الأول.
في المقابل، يتعرض الاقتصاد الأميركي لانكماش هو الأسوأ في تاريخ الولايات المتحدة، فقد أظهر تقرير صادر عن وزارة التجارة الأميركية نهاية أغسطس/آب الماضي انكماش الاقتصاد، خلال الربع الثاني من العام الحالي، بنسبة 7.31%.
كما توقع مكتب الميزانية في الكونغرس، في وقت سابق من سبتمبر/أيلول الجاري، أن تسجل الميزانية الفيدرالية عجزاً بقيمة 3.3 تريليونات دولار في السنة المالية 2020، التي تنتهي في 30 سبتمبر/أيلول الجاري، أي أكثر من ثلاثة أضعاف العجز المسجل في 2019، مشيرا إلى أن “هذه الزيادة هي في الغالب نتاج الاضطراب الاقتصادي الناجم عن جائحة كورونا”.
وبعد أن حاول ترامب إقناع الناخبين بأن فوزه فقط هو الذي سيحافظ على ارتفاع أسعار الأسهم، التي يهتم بها أغلب الأميركيين بسبب استثمار نسبة غير قليلة من أموال التأمينات والمعاشات الخاصة فيها، ارتفعت مؤشرات الأسهم الأميركية بصورة كبيرة خلال تعاملات الأسبوع المنتهي، رغم ظهور بوادر اقتراب بايدن من البيت الأبيض.
وخلال تعاملات أسبوع الانتخابات، الذي بدا فيه بايدن متقدماً منذ اللحظة الأولى على منافسه، شهدت مؤشرات الأسهم الأميركية أفضل أسبوع لها منذ شهر إبريل/نيسان الماضي، حيث ارتفع خلاله مؤشر “اس آند بي 500” بنسبة 7.3%، وربح مؤشر ناسداك 9%، واقتربت مكاسب مؤشر داو جونز الصناعي من 7%.
وشهد الأسبوع الذي تضاءلت فيه بصورة رسمية للمرة الأولى فرص بقاء ترامب في البيت الأبيض لأربع سنوات قادمة، أفضل نسبة ارتفاع لمؤشر “اس آند بي 500” منذ انتخابات عام 1932.
لكن طريق المرشح الديمقراطي للحفاظ على تأييد المواطن الأميركي، ليس معبدا بشكل كامل، إذ يواجه العديد من التحديات الثقيلة، لا سيما ما يتعلق بكلفة الإنفاق على حزمة إنقاذ الاقتصاد من تداعيات جائحة كورونا.
وتستمد حزمة بايدن، التي وعد بإقرارها في أقرب وقت ممكن حال وصوله إلى البيت الأبيض، ملامحها من قانون مساعدات كورونا والتخفيف والأمن الاقتصادي المعروف باسم CARES ACT، الذي تم إقراره أواخر الربع الأول من العام الجاري، بعد اجتياح الوباء للبلاد، حيث تشمل مدفوعات نقدية مباشرة للمواطنين، وإن كانت التوقعات تشير إلى زيادة قيمتها عما تم تخصيصه في المرة السابقة، بالإضافة إلى زيادة مخصصات تعويضات البطالة التي تتيحها الولايات للعاطلين.
أما ما يميز بايدن في حزمة الإنقاذ فهو العديد من النقاط التي عارضها ترامب، والتي تختص بالسماح لمن أصابهم الفيروس بالحصول على إجازات مدفوعة الأجر، وزيادة المساعدات المقدمة للولايات، بما يسمح بإعفاء المواطنين من دفع تكاليف إجراء اختبار الكشف عن الفيروس، وعلاجه في حالة الإصابة، وأيضاً تكلفة الحصول على المصل عند التوصل إليه.
كما يدخل بايدن البيت الأبيض في لحظة وصل فيها الدين الحكومي الأميركي إلى أعلى مستوياته، متجاوزاً 27 تريليون دولار، وتجاوز عجز الموازنة العامة للدولة العام المالي المنتهي في آخر سبتمبر/أيلول الماضي 3 تريليونات دولار، رغم أنه كان عند إعداد الموازنة لا يتجاوز تريليون دولار.
ومع تحمّس بايدن والديمقراطيين لإقرار حزمة إنقاذ ضخمة، يتوقع المراقبون ارتفاع عجز الموازنة، وبالتالي الدين الأميركي، بما يقرب من تريليوني دولار إضافية، قبل نهاية العام المالي في آخر سبتمبر/أيلول القادم. وينتظر الجميع ليروا ما سيفعله بايدن، الذي قال في أحد تصريحاته سابقا “لا تقل لي قيمتك، ولكن أرني ميزانيتك أقل لك ما هي قيمتك”.