قرّرت السلطة إنهاء تثبيت الأسعار على المحروقات والأدوية والقمح، في عزّ الأزمة المالية ــــ النقدية ــــ الاقتصادية، من دون تحديد ما هو البديل منها، وهو ما لم تفعله أعتى الدول الرأسمالية. رُفع ــــ زوراً ــــ شعار التوقّف عن دعم الاستيراد مقابل الحفاظ على أموال المودعين. نجحت الطبقة المهيمنة في تعميم هذه النظرية، رغم أنّ الـ 15 مليار دولار (إن صحّت مزاعم الحاكم رياض سلامة) الموجودة في حساب «التوظيفات الإلزامية» لدى مصرف لبنان، ليست «أموال المودعين»، بل «الخميرة» التي يُريد سلامة ــــ بالتعاون مع المُنتفعين منه ــــ استخدامها لإنقاذ مصارف من الإفلاس وبعض المحظيّين، فيما «أموال المودعين» البالغة قرابة الـ 80 مليار دولار قامرت بها المصارف ومصرف لبنان، وتُريد اليوم الإفلات من تحمّل مسؤولية تبديدها، فتلجأ إلى الإيحاء بأنّه لا يوجد أموالٌ للمودعين إلا تلك المُتبقية في «التوظيفات الإلزامية» ويجب إنقاذها.
يُذكّر المُشرف على مرصد الأزمة في الجامعة الأميركية في بيروت، ناصر ياسين، كيف أنّه منذ عام 2018، وكلّ القرارات تُتّخذ «وفق منطق كلّ يوم بيومه. بوجود أزمة مصرف لبنان والمصارف والمالية العامة، لا يُمكن الركون إلى حلول ترقيعية، بغياب خطّة تعافٍ مالي». عِوض الإجراءات الحالية، «يجب اعتماد رفع تدريجي للدعم على الاستيراد، يمتد لفترة ثلاث سنوات». يتحدّث ياسين عن تحرير الأسعار شيئاً فشيئاً، فلا تؤثّر بشكل دراماتيكي على معيشة السكّان. إلا أنّ ذلك وحده ليس كافياً. يُضيف بأنّه «بالتوازي يجب أن يكون العمل لإصلاح القطاعات قد انطلق، لا أن تُترك القرارات المصيرية بيد مصرف لبنان وبغياب السلطة».
التجربة الأولى والمباشرة لتحرير الأسعار ستكون مع المحروقات. «كيف يُتّخذ هذا القرار قبل دعم النقل العام؟»، يسأل ياسين. القصة لا تحتاج إلى تمويل كبير وتشكيل لجانٍ وسنوات من وضع الدراسات، «لدينا فانات وباصات مُنظّمة بطريقة ذاتية بالنسبة إلى الخطوط والمناطق التي تمرّ بها. يُمكن دعم هؤلاء بطريقة ذكية». ما يطرحه ياسين «بديل مؤقّت إلى حين بناء نظام نقل عام فعّال». من البدائل المؤقتة التي يذكرها ياسين أيضاً، «البطاقة التمويلية للأفقر. هي ليست فكرة سيئة لبلد يمرّ بأزمة، شرط أن يكون الأفق من بعدها واضحاً وبوجود خطّة حكومية». المبالغ في البطاقة «يجب أن تكون زهيدة، لتسدّ حاجات السلع الرئيسية والنقل، وممكن أن تُرفع القيمة مع فصل الشتاء لتأمين مشتريات المازوت مثلاً». لماذا؟ يُجيب ياسين بأنّه «لا نستطيع تحويل مجتمع إلى الاعتماد فقط على بطاقة، وخاصة أنّ تمويلها غير واضح». أما بالنسبة إلى الأدوية، فتستطيع وزارة الصحة فوراً «التحوّل نحو الاستيراد المباشر. وبسبب الحاجة إلى دعم الكهرباء، يجب زيادة سعر الطاقة للمُستهلكين الكبار، والاكتفاء بسعر الكلفة لمحدودي الدخل».
يقول رئيس قسم الاقتصاد في الجامعة اللبنانية الأميركية ــــ بيروت، غسّان ديبة. يُضيف بأنّ رفع الدعم «سيأتي كضربة إضافية لها. وهذا ما لا تفعله الحكومات في الأزمات. فالدعم كان سياسة صحيحة للتخفيف من وطأة الأزمة، بتثبيت أسعار سلعٍ أساسية». من أين سيتم التمويل؟ يُجيب ديبة بأنّ «هذا هو السؤال الأزلي في لبنان ويُستعمل دائماً لتبرير أمور عديدة، وأساسها عدم فرض الضرائب على الأرباح والثروة. فهذا هو السبب الرئيسي لعدم وجود طاقة كهربائية كافية أو غياب التغطية الصحية الشاملة».
المسألة واضحة بالنسبة إلى ديبة: «الآن، بديل رفع الدعم هو عدم رفع الدعم». ماذا في حال أصبح الأمر واقعاً؟ «يُمكن اعتماد بطاقة، لنُسمّها عائلية مثل الـ«bolsa familia» (تحويلات نقدية مشروطة تُركّز على الصحة والتعليم) في البرازيل وكانت تجربتها ناجحة جدّاً. طبعاً سيكون هناك معايير ستستثني الأكثرية من الطبقات الوسطى والعاملة، لذلك لا أرى أي مُبرّر لرفع الدعم حالياً». رفع الدعم سيجرّ خلفه أموراً عديدة، وصولاً إلى المطالبة بتصحيح الأجور وحمايتها.