نشرت إدارة الإحصاء المركزي في لبنان أرقام مؤشّر أسعار المستهلك، لغاية أواخر شهر آذار الماضي. وهو ما أظهر انخفاض معدّلات التضخّم إلى أدنى مستوى لها، مقارنة بالفترات المماثلة من الأعوام الثلاث الماضية. بهذا المعنى، بدأ اللبنانيون يحصدون ثمار استقرار سعر صرف الليرة الذي شهده لبنان، منذ أكثر من عام، عبر “عقلنة” معدلات التضخّم، وإن لم نشهد بعد استقرارًا في أسعار السوق، بما يتناسب مع ثبات قيمة الليرة.
بمعنى آخر، مازالت الأسعار ترتفع، لكن التحسّن تمثّل في انخفاض وتيرة الارتفاع. وعلى أي حال، يبقى من الضروري البحث عن أسباب استمرار هذا الارتفاع، بعدما تم تحييد عامل تدهور قيمة الليرة.
أدنى نسبة تضخّم منذ ثلاث سنوات
حتّى أواخر شهر آذار الماضي، كان مؤشّر أسعار المستهلك قد سجّل ارتفاعًا سنويًا بنسبة 70.36%، مقارنة بـ 263.84% خلال الفترة المماثلة من العام الماضي، و208.13% خلال الفترة نفسها من العام 2022، و157.86% في نهاية آذار 2021. بهذا الشكل، كانت نسبة التضخّم السنويّة قد انخفضت إلى أدنى مستوى لها، منذ ثلاث سنوات بالتمام والكمال. بل ويمكن القول أن نسبة التضخّم السنويّة المسجّلة هذا العام، لغاية شهر آذار، بالكاد تتجاوز ربع النسبة التي تم تسجيلها قبل سنة واحدة فقط، وهو ما يمثّل انخفاضًا لافتًا ومؤشرًا اقتصاديًا إيجابيًا لا يمكن تجاهله.
لفهم سبب هذا التطوّر في شهر آذار بالتحديد، تكفي الإشارة إلى أنّ سعر صرف الدولار في السوق الموازية كان قد ارتفع قبل سنة واحدة بالضبط، أي في نهاية آذار 2023، إلى حدود الـ107,600 ليرة للدولار الواحد. ومنذ بداية شهر نيسان التالي، بدأ سعر صرف الدولار بتسجيل الانخفاضات المتتالية في السوق الموازية، وصولًا إلى مستواه الراهن. وبذلك، بات سعر صرف الدولار اليوم يوازي نحو 83%، من سعره السابق قبل سنة واحدة.
وبهذا الشكل، تم تحييد ارتفاع سعر صرف الدولار، عن المعادلة المؤثّرة في أسعار السلع المستوردة من الخارج، على امتداد السنة الماضية. وهذا ما انعكس في معدّل التضخّم السنوي في شهر آذار الماضي، الذي يقيس تغيّر الأسعار خلال السنة التي سبقت هذا التاريخ. مع الإشارة إلى أنّ تذبذب سعر صرف الدولار، والتدهور في قيمة العملة المحليّة، مثّلا معًا العامل الأساسي الذي رفع معدلات التضخّم منذ أواخر العام 2019، بفعل تأثيرهما على قيمة السلع المستوردة عند تسعيرها بالليرة.
أسباب ارتفاع الأسعار
استمرار ارتفاع الأسعار، وإن ضمن هوامش أضيق، يطرح السؤال عن أسباب استدامة معدلات التضخّم رغم استقرار سعر الصرف. وهذا ما يقودنا إلى البحث في العديد من العوامل التي تركت أثرها على أسعار السوق منذ نهاية آذار 2023، أي خلال الفترة التي يعكس تغيّراتها معدّل التضخّم الأخير.
فخلال تلك الفترة، تأثرت الأسعار صعودًا بالتعديلات التي طرأت خلال العام الماضي على الدولار الجمركي وسعر الصرف المعتمد لاستيفاء سائر الضرائب والرسوم. كما استمر معدّل التضخّم بالتأثر بتصحيحات قيمة عقود الإيجار بعد انتهاء مفاعيلها. وفي الوقت نفسه، لعبت دولرة الأسعار في السوق دورًا كبيرًا في زيادة الأسعار، بعد تثبيت معدلات ربح التجار بالدولار النقدي في السوق.
غير أنّ الأشهر الستّة الماضية شهدت أسبابًا إضافيّة للضغط على أسعار السوق. إذ ساهمت الأحداث الجارية في البحر الأحمر برفع أسعار السوق بنسب تصل إلى حدود 15%، جرّاء ارتفاع تكاليف الشحن البحري والتأمين. مع الإشارة إلى أنّ أكثر من 30% من إجمالي الاستيراد في لبنان كان يمر من خلال مياه البحر الأحمر، قبل أن يتم تحويل مسارات الشحن البحريّة باتجاه طريق رأس الرجّاء الصالح.
تباين نسب ارتفاع الأسعار
بمعزل عن نسبة الارتفاع الإجماليّة في أسعار السوق، تباينت نسب ارتفاع الأسعار بين أبواب الإنفاق التي يرصدها المؤشّر. فعلى سبيل المثال، لم تسجّل أسعار المواد الغذائيّة والمشروبات غير الروحيّة ارتفاعًا بأكثر من 51%، وهو ما يقل بشكل كبير عن نسبة الارتفاع الإجماليّة في أسعار السوق. كما اقتصرت الزيادة في أسعار النقل على 13% فقط، مقابل 45% للخدمات الصحيّة و39% للملبوسات. وبهذا الشكل، كانت هذه الخدمات والسلع تقلّص من نسبة الزيادة الإجماليّة في أسعار السوق.
أمّا أبواب الإنفاق التي دفعت نسبة الزيادة الإجماليّة صعودًا، فتمثّلت بتكاليف الخدمات السكنيّة، التي تشمل المياه والكهرباء والغاز وغيرها، والتي ارتفعت بنسبة كبيرة تجاوزت 108%. كما ارتفعت تكاليف الإيجار السكني على نحو صادم، بنسبة تجاوزت 174%. وكذلك ارتفعت أسعار خدمات الترفيه بنسبة 71%، مقابل نسبة مخفية تجاوزت 589% لخدمات التعليم. وهكذا، لعبت أبواب الإنفاق هذه الدور الريادي في دفع مؤشّر أسعار المستهلك للارتفاع.
في النتيجة، من المهم التنويه إلى أنّ ضبط معدلات التضخّم سيبقى مرهونًا خلال الفترة المقبلة باستقرار سعر صرف الليرة. إذ أنّ عودة سعر الصرف الدولار للارتفاع خلال الفترة المقبلة، سيعني حتمًا العودة إلى تسجيل معدلات التضخّم المرتفعة جدًا، تمامًا كما كان الحال خلال الأعوام الثلاثة الماضية. وهذا ما يفرض السؤال عن استدامة السياسة النقديّة المعتمدة حاليًا من قبل المصرف المركزي، التي اعتمدت منذ السنة الماضية على امتصاص جزء كبير من الكتلة النقديّة بالسياسة الضريبيّة، مقابل اعتماد سياسات تقشفيّة راكمت ودائع القطاع العام لدى المصرف المركزي. وهذا ما قد لا يكون متاحًا خلال الأشهر المقبلة، بعد إقرار الزيادات في المساعدات الاجتماعيّة الممنوحة لموظفي القطاع العام.