منذ أن تم إطلاقها في أيّار 2021، تحوّلت منصّة صيرفة إلى أداة لتوزيع المغانم بأشكال عديدة. فبإسم المنصّة، عمل السماسرة النافذون على شراء الدولارات من السوق لحساب مصرف لبنان، بعمولات وهوامش ربح لا يعرف تفاصيلها أحد. وبإسمها أيضًا، تمكّنت السلطة من استيعاب نقمة العاملين في القطاع العام، عبر تحويل رواتبهم إلى الدولار الأميركي بسعر المنصّة. فتحوّل هؤلاء –رغمًا عنهم- إلى مضاربين يحاولون تعويض تدنّي قيمة رواتبهم من خلال فروقات سعر الصرف، بدل أن يتم العمل على تصحيح شامل وعادل للأجور. ومن خلال المنصّة، استفاد المحظيون في الفروع المصرفيّة من القدرة الحصريّة على شراء الدولارات بسعر المنصّة المدعوم، وبمبالغ تصل لحدود المليار ليرة لبنانيّة.
ببساطة، هي مجرّد سعر صرف آخر، إلى جانب أسعار الصرف المتعددة والموازية، التي يسهل استعمالها لتحقيق شتّى أنواع الكسب غير المشروع. وتمامًا كما أشار أحد تقارير البنك الدولي: “هناك ارتباط قوي، إن لم يكن ارتباطًا سببيًا، بين وجود أسعار صرف موازية، والفساد”. المشكلة، هي أنّ هذه المنصّة، التي انتهى بها الأمر إلى هذا الحال البائس، كان من المفترض أن تحقق الغاية المعاكسة تمامًا، أي أن تتحوّل إلى وسيط يستوعب كل عمليّات القطع في السوق، لتعكس في النهاية –وبشكل شفّاف- سعر الصرف الموحّد لليرة، وإن تدخّل المصرف المركزي بضخ الدولار عبرها أحيانًا للحد من تدهور قيمة العملة المحليّة.
إقصاء ماريان الحويّك
أكثر من أي وقت مضى، تتزايد العوامل التي تضيّق الخناق على منصّة صيرفة، والتي قد يكون من شأنها وقف عمل المنصّة خلال الأشهر المقبلة، أو على الأقل تغيير آليّة عملها، أو ربما الحد من حجم تداولاتها.
فكما هو معلوم، لم تبصر منصّة صيرفة النور إلا بجهد ماريان الحويّك، السيّدة التي جمعت ما بين منصبها كمستشارة ممتازة لحاكم مصرف لبنان، وترؤّسها وملكيّتها لشركة “كلاود إكس”، التي اعتادت على تنفيذ مشاريع مربحة جدًا لمصلحة المصرف المركزي. وأحد هذه المشاريع، لم يكن سوى منصّة صيرفة، التي جرت بلورة فكرتها ما بين شركة “كلاود إكس” وشركة “فوو”، قبل أن يدخل المصرف المركزي على الخط لاحقًا، كمستفيد نهائي من هذا التطبيق.
ومنذ ذلك الوقت، باتت ماريان الحويّك الوسيط الأساسي الذي يرعى عمل المنصّة، سواء كمستشارة تعمل إلى جانب الحاكم، أو كمالكة للشركة المتعاقدة مع مصرف لبنان “لتقديم خدمات تقنيّة”. مع الإشارة إلى أنّ العقود الموقّعة مع مصرف لبنان شملت كذلك الصيانة والدعم لضمان استمراريّة عمل المنصّة.
من الواضح أنّ أدوار الحويّك المتعددة، كمستشارة وكمالكة لشركة متعاقدة مع مصرف لبنان، انطوت على تضارب كبير في المصالح. لكن في جميع الأحوال، انتهى كل هذا السيرك المصرفي خلال الأسبوع الماضي، إثر جلسة الاستماع إلى ماريان الحويّك في باريس، في إطار التحقيقات المتعلّقة بشبهات تبييض الأموال والاختلاس التي تدور حول حاكم مصرف لبنان والحلقة المحيطة به (راجع المدن).
فتلك الجلسة، انتهت بتوجيه لائحة اتهام للحويّك بتشكيل عصبة أشرار جرميّة، وتبييض الأموال ضمن عصابة منظّمة. وعلى هذا الأساس، سُمح للحويّك بمغادرة الأراضي الفرنسيّة، إنما بعد تقديم كفالة بقيمة 1.5 مليون يورو، ومقابل التعهّد بوقف أي عمل أو علاقة لها مع مصرف لبنان أو مع الحاكم وعائلته، بانتظار انتهاء التحقيق.
وعلى هذا الأساس، لن يكون بإمكان ماريان الحويّك بعد تلك الجلسة التدخّل في إدارة منصّة صيرفة، كما كان الحال سابقًا. وهذا الإجراء لن يمنع المصرف المركزي من الاستمرار بالعمل بالمنصّة على المدى القصير، بوجود الموظفين القادرين على تشغيلها بشكل يومي. إلا أنّ صيانة المنصّة وتأمين الدعم الفنّي لاستمراريّتها سيكون على المحك، إلا إذا وجدت الحويّك طريقة لنقل خبرتها في إدارة المنصّة لموظفين آخرين يعملون بإسم شركتها.
رفض نوّاب الحاكم لاستمراريّة المنصّة
تشير المعطيات إلى ميل غالبيّة نوّاب الحاكم لمحاولة وقف عمل المنصّة، أو تعديل آليّات عملها، بمجرّد مغادرة حاكم مصرف لبنان منصبه في نهاية الشهر الحالي. مع الإشارة إلى أنّ سلامة تمكّن من فرض المنصّة على المجلس المركزي، الذي يضم نوّابه، بحكم الأمر الواقع، وبموجب الصلاحيّات الممنوحة له بموجب قانون النقد والتسليف. وحتّى هذه اللحظة، لم يحسم النائب الأوّل للحاكم موقفه بخصوص المنصّة، فيما يُفترض أن يكون قراره العامل الأكثر تأثيرًا على إمكانيّة استمرار المنصّة، لكونه هو من سيتولّى بعد نهاية شهر تمّوز صلاحيّات الحاكم.
وتتركّز الحجج المعترضة على عمل المنصّة داخل المجلس المركزي على مجموعة من المعطيات، ومنها كلفة المنصّة الباهظة على مستوى استنزاف احتياطات المصرف المركزي، والغموض الذي يحيط بطريقة عملها وآليّاتها لشراء وبيع الدولار، بالإضافة إلى فشلها في توحيد أسعار الصرف واستيعاب سعر صرف السوق الموازية. ويشير هؤلاء إلى التقارير الدوليّة، التي تكرّر الإشارة إلى عبثية السياسات النقديّة المعتمدة من قبل مصرف لبنان، ومنها تلك المرتبطة بالمنصّة، التي تشجّع على المضاربة والاستفادة من فوارق أسعار الصرف المتعددة، بدل السعي لتحقيق الاستقرار والانتظام النقدي.
في مقابل كل هذه الحجج العقلانيّة، يتمسّك الرئيسان نبيه برّي ونجيب ميقاتي حتّى اللحظة بنظريّات حاكم مصرف لبنان حول أهميّة الدور الذي تلعبه المنصّة اليوم، على مستوى ضبط سعر صرف الدولار في السوق الموازية. كما يبدو أنّ موقف برّي وميقاتي يرتبط أيضًا بمسألة أجور القطاع العام، التي يتم تحويلها إلى الدولار بسعر المنصّة، وهو ما يجنّب حكومة تصريف الأعمال الدخول في عمليّة تصحيح شاملة للأجور، مقابل الاكتفاء بالمساعدات الاجتماعيّة الضئيلة التي تم إقرارها.
وفي النتيجة، من المتوقّع أن يؤثّر موقف برّي بالتحديد على اتجاه النائب الأوّل لحاكم مصرف لبنان وسيم منصوري في المرحلة اللاحقة، وهو ما يرجّح التوصّل إلى تسوية تقضي بالحد من نطاق عمل المنصّة أو تغيير آليّة عملها، بدل وقف عملها بشكل تام ومفاجئ. وقد تفضي التعديلات في آليّة عمل المنصّة إلى تقليص الفارق بين سعر صرف السوق الموازية وسعر صرف المنصّة، للحد من أرباح المضاربات التي تستفيد من فارق السعرين. كما يمكن أن تشمل هذه التعديلات وضع خطّة زمنيّة، تستهدف إلغاء هذا الفارق بشكل تام في المستقبل، لتحقيق هدف توحيد أسعار الصرف، المنصوص عنه في التفاهم الأولي مع صندوق النقد.