سيول في جدّة، حبّات برد في الكويت، وموجات حرّ في أوروبا… بات واضحاً أنّ الأنظمة المناخية في الكرة الأرضية تشهد تغيّرات دراماتيكية يصعب التعامل معها. ولا يشذّ لبنان عن هذه القاعدة في ما يشهده من تقلبات غير معهودة في طقسه ومناخه. لكن في حين تعمل بلدان العالم على مواجهة هذه الظروف بكل ما أوتيت من وسائل للحدّ من أضرارها يقف لبنان عاجزاً تماماً عن مواجهة عوامل مناخية تهدّد بإغراقه أكثر فأكثر في الخراب.
شكّل منظر السيول التي اجتاحت الطرقات والمباني والبيوت في أواخر شهر تشرين الثاني المنصرم ووفاة رجل مسنّ جرفته السيول الإنذار الأول لهذا العام عمّا يمكن أن ينتظر اللبنانيين من مآسٍ في الشتاء. وقبلها شكّلت حرائق الغابات والأحراج المتكررة في لبنان إنذاراً ملتهباً بأن التغيير المناخي صار واقعاً لا يمكن الهروب منه. ولكن في بلد تسوده الفوضى المزدوجة من قبل مسؤوليه ومواطنيه وعدم الوعي لضرورة الإلتزام بالإجراءات الحامية التي تلجم أضرار التغير المناخي، لا بدّ من التساؤل الى أين يسير لبنان؟
التغيرات المناخية خطر داهم
لا شك أن تغيرات الحركة المناخية بدأت تتّضح شيئاً فشيئاً كما يقول رئيس جمعية غرين غلوب البيئية سمير سكاف، وانعكاساتها تظهر في غضب الطبيعة في الأماكن غير المعتادة على شكل فيضانات وأعاصير شتاءً، وحرائق وجفاف صيفاً. وبالتالي تنعكس هذه الأمور سلباً على حياة الشعوب ما يدفع بالضرورة الدول «الواعية» الى اتخاذ مبادرات للحدّ من ظاهرة التغيّر المناخي، وإلا فإن العالم يجب أن يتحضّر الى حركة نزوح كبرى للشعوب من مناطق تعتبر في خطر الى أماكن أقل خطورة! فالأمور تحتاج الى ارتفاع في درجة الوعي، خصوصاً لدى الحكومات من أجل الوفاء بتعهّداتها «المناخية» وإلا فالمخاطر يمكن أن تتحول الى كوارث مميتة. وفي لبنان لا يختلف خبيران على تأثيرات التغيّرات المناخية على الطبيعة والبشر على حد سواء. وتأكيداً على هذا الكلام يقول جو القارح مدير موقع «طقس لبنان» إن ما يمكن ملاحظته بشكل عام أن موسم الشتاء انخفضت فيه الأيام الماطرة، وبسبب التغيّرات المناخية التي يشهدها العالم تغيّر نمط الشتاء عمّا اعتاده لبنان في الماضي مع تطرف لناحية الحرارة والمتساقطات، أي يمكن أن تمرّ فترة طويلة من الصحو يليها دفق شديد للأمطار لمدة قصيرة قد تتسبّب بسيول، أو قد تترافق العواصف مع انخفاض شديد في الحرارة لكنها لا تدوم طويلاً وتليها عودة الى حرارة طبيعية أو فوق معدلها… حتى الثلوج لم تعد تصل الى ارتفاعات منخفضة إلا نادراً كما أن بقاءها على القمم العالية لم يعد يستمرّ لفترات طويلة نتيجة الارتفاع المفاجئ في الحرارة. والأمر ذاته ينطبق على «الملاح» أو الجليد الذي كانت تشهده المناطق العالية ومنطقة البقاع حيث انخفض عدد أيامه في السنوات الماضية وهو ما يؤثر سلباً على الحشرات والمزروعات.
وهذه السنة وقد بتنا في منتصف شهر كانون الثاني يقول المهندس ميشال فرام رئيس مصلحة الأبحاث العلمية الزراعية إن درجات الحرارة لا تزال أعلى من معدلها والأمر مرشح للاستمرار ولا تزال الثلوج خفيفة على الجبال ما يؤثر سلباً على موسم التزلج وهذا يفاقم الأزمة الإقتصادية. كما أن تراجع هطول الأمطار سيؤثر سلباً على المزروعات كافة وخاصة القمح وارتفاع درجات الحرارة سيؤدي الى تفتح براعم الأشجار قبل أوانها ما يعرّضها الى خطر الإصابة بالجليد المتأخر، وسيؤدي الى المزيد من الأمراض والحشرات. وسيجبر نقص الأمطار المزارع على الريّ التكميلي المكلف جداً، ما يعني زيادة كلفة الإنتاج، وفي حال عودة البرد والصقيع خلال شهر شباط فقد يكون تأثيرهما سلبياً على الزراعة. وختاماً ومع ازدياد الحشرات والأمراض الفطرية سيتم استعمال المزيد من الأدوية الزراعية ما يعني زيادة ترسّبات الأدوية في الإنتاج الزراعي والتربة والمياه الجوفية.
كيف يواجه لبنان
التحديات المناخية؟
المخاطر حقيقية وبالتالي صار لزاماً على الحكومة والوزارات المختصة ومراكز الأبحاث إيجاد طرق للتأقلم مع هذه المتغيرات. لكن حتى اليوم يبدو أن التعهدات بمواجهة التغيّرات المناخية لا تزال حبراً على ورق رغم سعي وزارة البيئة بشكل خاص للعمل على وضع خطط مستدامة تقي لبنان الأخطار. لكن الخطط وحدها لا تكفي ما لم تطبق.
فحتى اليوم مثلاً لم تعمد وزارة الأشغال أو البلديات رغم جهودها الى توسيع مجاري تصريف المياه بشكل كافٍ لتتمكن من استيعاب السيول في حال حدوثها فيما المؤشرات المناخية تنبئ بأن السيول قد تتكرر في أوقات مختلفة من السنة. ومن جهتهم لم يلتزم المواطنون الذين تجرّعوا أضرار السيول المرّة، بعدم رمي نفاياتهم في الطرقات ومجاري تصريف المياه منعاً لانسدادها وفيضانها، يتجاهلون القانون الذي لا يطبق عليهم بصرامة. أما موجات البرد الشديد والجليد وتدني الحرارة الى ما دون الصفر التي صارت موعداً ثابتاً في كل شتاء فيقف المواطنون كما يقف اللاجئون السوريون عاجزين عن مواجهتها بسبب عدم توفر الطاقة للتدفئة وارتفاع كلفتها وبات موت الأطفال في المخيمات نتيجة البرد أو احتراق الخيم خبراً طبيعياً رغم هوله.
رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي الذي شارك في قمة المناخ COP 27 التي عقدت مؤخراً في شرم الشيخ في مصر كشف في كلمته أن لبنان من البلدان الشديدة التأثر بانعكاسات تغيّر المناخ، وأن دراسات أعدّتها وزارة البيئة اللبنانية أشارت إلى أن التغير المناخي سيسبّب انخفاضاً بنسبة 14% في الناتج المحلي الإجمالي للبنان بحلول عام 2040، وانخفاضاً أكثر إلى 32% بحلول عام 2080. وهذا الخطر في التغير المناخي سيضاعف من حدة المآزق والأزمات الحالية.
وكان ميقاتي قد شدّد على انعكاس التغيّرات المناخية على الزراعة في لبنان قائلاً «إن الزراعة من أكثر القطاعات الاقتصادية تأثراً بتغيّر المناخ لأنها تتأثر بشكل مباشر بالتغيرات في درجات الحرارة وهطول الأمطار. ووضعنا ضمن أولوياتنا زيادة البرك لتجميع أمطار الشتاء أو ما يعرف بالسداد بعيداً عن السدود التي لا تتلاءم والواقع الجغرافي اللبناني، وأثبت معظمها عدم جدواه».
وكان تقرير سابق لمنظمة الفاو للأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة قد حذّر منذ سنوات أن إنخفاض الغطاء النباتي بسبب قلع الأشجار وتمدّد المدن في لبنان أدّى إلى انخفاض في تسرّب المياه إلى أعماق التربة رغم غزارة الأمطار، وإلى زيادة في الجريان السطحي وتكوّن للسيول، وإلى انخفاض في معدّل المياه الجوفيّة، الأمر الذي بات يهدّد المزروعات التي تتطلّب ريّاً أيام الصيف الحارة لا سيما مع ازدياد عدد الأيام الحارة. ونتيجة ذلك ستشهد الزراعة إرتفاعاً في كلفة الإنتاج، ما يفقدها القدرة على المنافسة، ومع ازدياد الأمور سوءاً نتيجة التغير المناخي سيتواصل وضع الزراعة بالتدهور وهذا سيؤدّي إلى مزيد من الفقر والنزوح.
إذاً باعتراف رئيس حكومة تصريف الأعمال وتقارير وزارة البيئة ودراسات الأمم المتحدة في لبنان فإن مكافحة التصحّر وإدارة الموارد المائية يجب أن تكونا من الأوليات وذلك لضمان الأمن الغذائي واستمرارية الزراعة.
فساد وإهمال وتبديد الثروة المائية
ولكن هل تعي الدولة اللبنانية أن سياساتها المقترحة لحماية الزراعة في وجه الجفاف ينفيها الوضع الكارثي الذي وصلت إليه المياه في لبنان؟ يقول الناشط البيئي سمير سكاف وهو العضو المراقب في الأمم المتحدة في البيئة «يحتاج لبنان الى تجميع المياه وبخاصة مياه الشتاء وذوبان الثلوج في البرك وفي السدود التي تم إنشاؤها. لكن فساد السلطة وسوء الإدارة والإهمال عوامل مسؤولة عن إنشاء سدود لا يمكن أن تتجمّع فيها المياه كسد المسيلحة الأخير أو سد بريصا. فيما سدّ القرعون الذي كان مثالاً ناجحاً جداً لمنشآت ممتازة في زمن «الدولة»، وللسدود التي يحتاجها لبنان، تحوّل الى بركة للمياه الآسنة بعد أن حُوّلت إليه كل مجارير البقاع وبعد أن أُهدر مليار ونصف المليار دولار من الفشل والفساد في عدم إنشاء محطات للصرف الصحي والمياه المبتذلة. فكيف يمكن لهذه السياسات المائية الفاشلة أن تحمي الزراعة من تأثيرات المتغيرات المناخية وتحفظ الأمن الغذائي؟».
النائب البقاعي السابق والمدير العام الأسبق لمصلحة مياه الليطاني ناصر نصرالله يقول بدوره إن مشروع الليطاني الذي أقيم بالتعاون بين الصندوق العربي للتنمية الاقتصادية والاجتماعية وصندوق التنمية الكويتي قد نفذ 80% منه وباتت البنى التحتية جاهزة ومنها الأقنية والخزانات وشبكات الري والقساطل وتوربين الكهرباء. لكن الظروف التي واجهت لبنان مؤخراً في 2020 جعلت الأعمال تتعثر لا سيما أن جزءاً من تمويلها يقع على عاتق الدولة اللبنانية من خلال وزارة المالية التي باتت عاجزة اليوم عن تأمين النسبة الخاصة بها من كلفة الأعمال.
لكن المشروع الكبير لا يزال يحتاج الى عنصر واحد غير متوافر وهو مياه الليطاني!!! فتلوّث مياه الليطاني وبحيرة القرعون يجعل الاستفادة من هذه البنى التي أنشئت غير ممكن وواجب الدولة اللبنانية التي أقرت مشروع تنظيف نهر الليطاني بميزانية مهولة أن تضع كأولوية لها تنظيف بحيرة القرعون وهي أكبر المساحات المائية السطحية في لبنان ليتمكّن البقاع والجنوب من الاستفادة من مياهها للري والحفاظ على الزراعة.
في عين العاصفة
«لقد بات تأثير تغير المناخ على الموارد الطبيعية في لبنان، جلياً للجميع. فقد تسبّبت حرائق الغابات في البلاد في الأعوام الماضية في حرق مساحات شاسعة من الغابات… ونتوقع حرائق غابات أكثر وأسوأ في السنوات المقبلة.» قالها ميقاتي في كلمته.
فهل وجدت الدولة حلاً للحرائق؟ فلا طائرات الإطفاء التي وُهبت للبنان تمّت الاستفادة منها لأسباب كثيرة ولا مرسوم تعيين مأموري الأحراش تم إقراره لكون هؤلاء لم يخضعوا لميزان التوزيع الطائفي وبقيت أحراش لبنان لقمة سائغة في فم النيران مع كل ارتفاع شديد في درجة الحرارة يشهده البلد المهمل.
فحتى اليوم كما في المستقبل المنظور لا يبدو لبنان مستعداً أو قادراً على مواجهة تحديات الطبيعة وغضبها ويقبع في عين العاصفة منتظراً الأسوأ.