حلّ وفد صندوق النقد الدولي ضيفاً مرحبّاً به في الأوساط المصرفية والسياسية تاركاً وراءه ثوابت قوامها الإستقرار. الزيارة التي تخللتها لقاءات مع المسؤولين اللبنانيين وأبرزهم حاكم مصرف لبنان ورئيس لجنة الرقابة على المصارف، كانت إستكشافية إستطلاعية أثمرت إعداد دراسة حول آلية تخفيض نسبة الدين العام الى الناتج المحلي، إعادة تكوين رساميل المصارف، إمكانية تحرير سعر الصرف وإعادة تنشيط الاقتصاد.
جسّ وفد صندوق النقد الدولي في الزيارة التي قام بها الى لبنان نبض الحكومة اللبنانية، حول مدى استعدادها للقيام بالإصلاحات المطلوبة وحظي طبعاً بالتأكيد عليها لا سيما من رئيس مجلس النواب نبيه بري، مطلعاً على التفاصيل لتبنى على أساها الدراسة التي سيعدّها والتي تتضمن ما يتم الخشية منه، وهو تحرير سعر العملة المحلية في بلد مدولر بنسبة 75% مثل لبنان، يعتمد على الإستيراد من الخارج بقيمة 20 مليار دولار مقابل 3 مليارات دولار تصدير.
فهمّ صندوق النقد، كما علمت “نداء الوطن” من مصدر مطلع، تركّز على ميزان المدفوعات الذي سجل تراجعات الى 4.4 مليارات دولار في أيلول 2019، الأمر الذي لم يشهده لبنان حتى خلال سنوات الحرب. فهذا الميزان والذي يسمى Balance of payment يعتبر سجلاً لجميع المعاملات الاقتصادية، التي تحصل بين سكان البلد وبقية العالم في فترة معينة من الزمن، ويشير في حال الإنخفاض إلى أن الأموال التي تخرج من لبنان تفوق تلك التي تدخل إليه، ما يؤدّي إلى استنزاف احتياطي العملات الأجنبية ويضغط على سعر صرف الليرة.
كما ركّز صندوق النقد على مالية الدولة العامة وكيفية إعادة ترشيد النفقات والواردات وخفض العجز، وإعادة رسملة المصارف في لبنان المطلوب زيادة رأسمالها بنسبة 20% لغاية حزيران المقبل، إستناداً الى تعميم سبق أن صدر عن مصرف لبنان. كما تطرق الى ضرورة زيادة إجمالي الناتج المحلي وتحفيز الإنتاجية، ويبرز ذلك من خلال التحوّل الى اقتصاد منتج وليس ريعي ملؤه الإحتكارات والمحاصصة.
تحرير العملة
وأخيراً، خلص اللقاء مع وفد البنك الدولي الى تحرير سعر الصرف للعملة الوطنية إزاء الدولار. وفي هذا السياق برز موقف رئيس لجنة الرقابة على المصارف سمير حمود واضحاً أمام وفد الصندوق، إذ شدّد خلال اللقاء على حرص اللجنة والمصرف المركزي على عدم المسّ بودائع المواطنين خلال الإجراءات الإنقاذية التي يمكن اتخاذها للخروج من الأزمة.
فالمصارف، كما قال حمود، “ستعتمد في إعادة رسملتها على مساهميها وعلى مساهمين جدد وربما من المودعين، لكن يبقى الهمّ الأساس أمام القطاع المصرفي هو الحفاظ على أموال المودعين الكبيرة والصغيرة، وإذا كان هناك تعذّر في السحوبات والتحاويل فيجب ان يبقى هذا الأمر موقتاً والعمل على تحرير الودائع قبل سعر الصرف”.
فتحرير الودائع وسعر الصرف ليس بالمسألة السهلة، والدرب الذي يجب أن يسلكه لبنان صعب للتمكن من تحقيق هذا الأمر. واعتبر مصدر مطلع على لقاءات صندوق النقد أن ذلك “يكمن في تحقيق الإستقرار الأمني والشروع في الإصلاحات أولاً، على أن تحرّر الودائع وبعدها يتمّ تحرير الليرة اللبنانية”.
لكن متى سيتم تحرير الليرة؟
إن تحرير العملة غير ممكن في الوضع الراهن، ولن يحصل، يشرح المصدر المطلع، قبل تحرير ودائع اللبنانيين، وتوسيع هامش سحوبات الودائع أمر صعب في الوقت الراهن. فالعملية اذاً ستتطلب الوقت، والوقت الذي سيمرّ يجب ان تتخلله إصلاحات من قبل الدولة واستقرار أمني وخفض العجز في الموازنة العامة”. إذاً، لا إصلاحات جدية، يعني لا حلّ للأزمة والدين، ولا غطاء دولياً ولا تحريراً للودائع ولا للعملة.
هذه المعادلة باتت مفهومة للحكومة اللبنانية. لكن ما هو غير واضح هو كيفية تحرير العملة في بلد مدولرمثل لبنان؟
تحرير العملة كما ذكرنا سابقاً يبدأ من الأساس أي من معالجة موازنة الدولة والإصلاحات، وعادة يكون إما تحريراً كلّياً أو جزئياً. في حال حصول تحرير كلي يترك تحديد سعر الصرف للسوق وآلية العرض والطلب، بشكل كامل، وتمتنع بموجبه الدولة عن أي تدخل مباشر أو غير مباشر. أو تحرير موجّه ويقوم على ترك تحديد سعر الصرف للسوق وآلية العرض والطلب، مع تدخل المصرف المركزي حسب الحاجة، بهدف توجيه سعر الصرف.
صحيح أن تحرير سعر صرف الليرة من الدولار الأميركي سيجنّب اللبنانيين الخسارة الأولى المتمثلة بالفرق بين السعر الرسمي والسعر الحقيقي في السوق الموازية، وسيخفض من قيمة الدين بنسبة 40 مليار دولار لكن هذا التخفيض يبقى نظرياً كون الدين بالليرة لا يشكل مشكلة فعلية للدولة في ظل قدرتها على طباعة العملة أو التأجيل. من المؤكّد أن سعر الصرف الرسمي والحالي للدولار المحدد بسعر وسطي 1507.5 ليرات لم يعد مؤاتياً في الوقت الراهن، في ظل وجود سعر صرف موازٍ للدولار بقيمة 2400 و 2500 ليرة، إلا أن زيادة سعر صرف الدولار الرسمي أمر غير صحّي في زمن الأزمات. كما أن التحرير اليوم بدوره يعني سقوط العملة الوطنية وانعدام الطلب عليها وارتفاع عرضها، في مقابل ارتفاع الإقبال على الدولار بنحو ثلاثة أضعاف الليرة أي إلى ما يزيد عن 4500 ليرة، وهذا الأمر سيؤدي الى إفقار كافة العاملين في القطاع العام، والمستخدمين في القطاع الخاص الذين يتقاضون رواتبهم بالعملة الوطنية.
من هنا، لا تقويم للوضع في البلاد بعيداً عن الإستقرار الأمني والمالي أيضاً، الذي سيأتي كنتيجة للإصلاحات الجدّية والفعلية والجذرية، ليحظى لبنان بمظلّة الخارج جرّاء عودة الثقة. وبانتظار ما ستؤول اليه دراسة صندوق النقد الدولي وما اذا كان سيتبعها دعم مالي مباشر للبنان، تبقى المصارف سارية على قدم وساق نحو المزيد من التقنين في سحوبات العملة الصعبة، التي بلغت حدّها الأدنى لدى بعض المصارف وهو 50 دولاراً أسبوعياً، والمزيد من الصرف من العمل والجوع والغليان في الأسعار.