لم تنفجر قنبلة رفع سعر الصرف الرسمي من 1507 ليرات الى 15 ألف ليرة لبنانية التي رماها وزير المالية منذ يومين مع تحديد بدء التطبيق في بداية شهر تشرين الثاني اذ تراجع عنها فوراً وربطها بالإصلاحات. اذ أحدثت تلك القنبلة بلبلة وغموضاً وفوضى في القطاعات التي ستطالها وتتمكن من اعتمادها لا سيما المصارف. فهي بحسب الخبراء «قصّة كبيرة» اذ لا يمكن العودة الى سياسة تثبيت العملة الوطنية أمام الدولار الأميركي في الإقتصاد الحرّ. إلا أن ذلك اللبس ما لبث أن لملمه رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي، محاولاً التخفيف من وطأة القرار من دون نفي صحّته، موضحاً لـ»رويترز» أن ذلك التدبير سيكون تدريجياً ولن يشمل القروض وسيصدر حاكم مصرف لبنان تعاميم وقرارات من اليوم لغاية 1 تشرين الثاني تحدّد حيثيات هذا القرار والاستثناءات المطلوبة».
يحمل عدد من الإقتصاديين والسياسيين على سياسة تثبيت سعر الصرف أمام الليرة الوطنية، معتبرين أنها خاطئة وهي من الأسباب التي أدت الى تفشّي الأزمة المالية التي اندلعت في البلاد وتبعتها الأزمتان الإقتصادية والمصرفية …في بلد يعتمد على نظام إقتصادي حرّ.
فاقتصاد السوق أو الاقتصاد الحر أو الاقتصاد الرأسمالي، هي تسميات عدة لها معنى واحد وهو النظام القائم على حرية الفرد، وتفاعل العرض والطلب في السوق هو حجر أساس هذا النظام وهو الذي يتحكم بالأسعار، فضلاً عن المنافسة الحرة التي تلعب دوراً مهماً في التحكم بالأسعار وتحررها من أي قيود يمكن للدولة أن تستخدمها.
ومع ذلك فإن اقتصاد السوق لا يعني بأي شكل من الأشكال غياب القطاع العام ودور الدولة في تنظيم الحياة الاقتصادية. وتمت إعادة تقييم اقتصاد السوق بعد الأزمة المالية العالمية الحادة نهاية العام 2008، ودخلت الى منظومة الاقتصاد الحر اجراءات كانت تنسب للاشتراكيين، ومنها مثلاً التأميم الذي اتخذته ادارة الرئيس باراك أوباما في عملية كبح الانهيار المالي في أكثر الدول الكبرى اعتماداً على الاقتصاد الحر.
في لبنان الذي يصنف اقتصاده بالحرّ، لم يكن سعر صرف الدولار محرّرا ولا يخضع التداول بالعملات لشروط السوق بسبب اعتماد سياسة تثبيت سعر العملة بدءاً من العام 1997 على الـ 1507.5 ليرة كسعر وسطي للدولار.
الدولار الحقيقي
هذا الأمر شدّد عليه رئيس لجنة الرقابة على المصارف السابق سمير حمود خلال حديثه الى «نداء الوطن» عن إمكانية السير بسعر رسمي بقيمة 15 ألف ليرة. وقال «إن الدولار ضمن اقتصاد حرّ لا يجب أن يكون مقيّداً، بل يجدر أن يكون حقيقياً وبالتالي لا يمكن تقييد سعر الصرف عند 15 ألف ليرة، بل أن يكون بسعر السوق الحقيقي ولو كان يبلغ اليوم 40 ألف ليرة للدولار الواحد». لافتاً الى أن «تحرير سعر الصرف لن يحدث تضخماً كما يتمّ التداول به. متسائلاً، أي تضخم يمكن أن يشكّل؟ فهل نستولي على أموال الناس لمحاربة التضخم؟» لافتاً الى «أن الدولار المحرّر يجب الحصول عليه بعيداً عن الطوابير».
وتحديد الرواتب بحسب حمود يتمّ «وفقاً لعملية سعر الصرف الحقيقي لتحسين القدرة الشرائية للمواطنين، والمحافظة عليها كي تستمرّ عجلة الإستهلاك في البلاد». مشيراً الى أن «محاربة الغلاء المعيشي والتضخم لها ادواتها في البنوك المركزية، ولم تكن يوماً أدواتها من خلال اقتطاع الودائع او عدم تمكن المواطن من تسديد فاتورة الكهرباء على سبيل المثال».
وشدّد على «أننا في لبنان نعتمد نظام الإقتصاد الحرّ، وبالتالي ليس هناك سعر رسمي وغير رسمي وآخر يحدّد بقانون بل ما يجب اعتماده هو سعر صرف يتماشى مع سعر السوق» . وفي ما يتعلق بمطلب صندوق النقد بتوحيد سعر الصرف، قال حمود «الصندوق أوّل من يعتمد سياسة النظام الحرّ والإقتصاد الحرّ وبالتالي لن يطالب الدولة اللبنانية باعتماد سعر صرف مقيد وغير حرّ فيصبح الإقتصاد غير حرّ». لافتاً الى أن «هناك مصارف حريصة على استقرار سعر صرف الدولار أمام الليرة وليس ثبات سعر الصرف».
هل يطبق على الرسوم او الضرائب؟
وفي الإطار نفسه، اعتبرت الباحثة في السياسات الاقتصادية البروفيسور نيكول بلّوز بايكر خلال حديثها مع «نداء الوطن» أن «هناك لغطاً حول قرار رفع السعر الرسمي للدولار الى 15 ألف ليرة، وسألت هل يطبق فقط على الرسوم والضرائب التي يتمّ تقاضيها من الدولة أم أنه سيكون عاماً وشاملاً لكل التعاملات حتى المصرفية منها؟
وسألت: وزير المال هو الذي يقرّر نظام سعر الصرف الذي يجب اعتماده وما اذا كان ثابتاً أو عائماً كما يريد صندوق النقد. علماً أن نظام تثبيت سعر الصرف تعرّض لانتقادات جمّة، فهذا الأمر ليس سوى هرطقة وغباء واستغباء إقتصادي».
والمفارقة بحسب بلّوز انه «تمّ إلاعلان عن رفع سعر الصرف الرسمي بعد إقرار مجلس النواب الموازنة العامة، وفي ظلّ عدم وجود الإحتياطيات الكافية في مصرف لبنان للدفاع عن هذا السعر، ما سيتسبب بفوضى في السوق السوداء». معتبرة أن «إعلان وزير المال رفع سعر الصرف الرسمي، دليل على تدخّل السياسيين بالسلطات النقدية ما يخرق مبدأ استقلالية المصرف المركزي في تنظيم السياسات النقدية في البلاد ومعها استقرار سعر صرف العملة». لافتة الى أنه «يجب وجود تناغم كي تؤمن السياستان النقدية والمالية الإستقرار الإقتصادي، لا أن يكون مجلس المصرف المركزي موظفاً عند الدولة وغير مستقل ومموّلاً لعجزها، من دون الاخذ بالاعتبار نسب التضخم وتدهور العملة الوطنية».
ورأت أن «ارتفاع نسبة ضريبة الدخل على سبيل المثال مقابل انعدام الدخل لدى المواطنين من شأنه أن يعيق عملية تحصيل الدولة للضرائب و بالتالي تحقيق الغاية المنشودة وهي زيادة عائدات الخزينة، وبذلك إن التداعيات الإيجابية لهذا القرار غير مضمونة، خصوصاً أننا نفتقد الى الخطط والرؤية المستقبلية في ظلّ عدم ضبط حدود البلاد الشرعية وغير الشرعية».
الوزير لا يحدّد سعر الصرف
وبدوره، أشار المستشار المالي غسان شمّاس لـ»نداء الوطن» الى أنه «لا يستطيع وزير تحديد سعر صرف بهذه السهولة، إنها سياسة مالية لها علاقة بالمصرف المركزي. صحيح أنه سيزيد مداخيل الدولة من الرسوم والطوابع… لكن بالنسبة الى القروض من المفترض أن تستثنى»، واصفاً قرار رفع السعر الرسمي بـ»المتسرّع والإعتباطي»، معرباً عن خشيته من «عدم تطبيقه ولو ربط بالإصلاحات نظراً الى صعوبة السير به، في ظلّ عدم وجود سيولة لدى مصرف لبنان».
تأتي كل تلك التساؤلات قبل ان يعلن ميقاتي ان ذلك التدبير لا يمكن السير به في ليلة وضحاها وأنه لن يطاول القروض وأن سعر 15 ألف ليرة للدولار الواحد سيطبق مبدئياً على «الرسوم الجمركية وعلى البضائع المستوردة وعلى القيمة المضافة… أمّا الباقي فسيتم تدريجياً عبر تعاميم وقرارات تصدر عن حاكم مصرف لبنان تحدّد هذا الموضوع».