سارعت شركة توتال منذ نحو أسبوعين، إلى تغيير موقع الحفر الأول في البلوك رقم 9، بسبب الاصطدام بصخرة يصعب اختراقها، واستكمال الحفر للوصول إلى مكمن الغاز المحتمل، بعد تغيير بعض المعدّات وإجراء ترتيبات تحتاج وقتاً أطول. واستقرَّ الرأي على الابتعاد 31.7 متراً والحفر في نقطة ثانية، مع الاحتفاظ بإمكانية الحفر في نقطة ثالثة. وذلك بموافقة وزارة الطاقة.
لم يستغرق الأمر أكثر من أسبوعين من موعد تغيير الموقع والبدء بحفر بئر جديد، حتّى بدأت تتسرّب أخبار منسوبة إلى مصادر في شركة توتال، تفيد بأن الحفر وصل إلى عمق 3900 متر ولم تجد الشركة غير الماء، علماً أنه كان من المفترض بالشركة استمرار الحفر وصولاً إلى عمق 4400 متر.
لا تقارير رسمية
لا تتّفق الأخبار التي تنفي العثور على الغاز، مع الوعود التي أطلقتها السلطة السياسية واستعملتها شمّاعة لتسريع الاتفاق على ترسيم الحدود البحرية مع العدو الاسرائيلي. واعتبرت السلطة أن التنازل عن جزء من المياه اللبنانية وما تحمله من مخزون غازي ونفطي، يمكن التغاضي عنه إذا ما بدأنا باستخراج الغاز سريعاً من حقل قانا.
أوهام السلطة اصطدمت بصخرة الحقيقة العلمية. فإن كان البئر المحفور لا يحتوي على الغاز، أو يحتوي على أي عنصر، حتى لو كان مياهاً، فالتقارير العلمية وحدها هي التي تحسم الجدل. ولذلك، من المفترض أن يصدر بيان رسمي عن شركة توتال ووزارة الطاقة وهيئة إدارة قطاع البترول، يتضمّن شرحاً تفصيلياً لما حصل، وللوثائق التي تعرض المراحل العلمية التي تثبت النتائج التي وصلت إليها توتال.
المعلومات حول عدم العثور على الغاز بقيت حتى الساعة عبارة عن “تسريبات إعلامية” تستند إلى مصادر، أحدها ما نقلت عنه وكالة رويترز قوله أنه “لم يُعثر على غاز بعد عمليات الحفر في البلوك 9 البحري التابع للبنان. وأحجم وزير الطاقة اللبناني ومسؤولون من هيئة إدارة قطاع البترول اللبنانية عن التعليق”. ومع ذلك تؤكّد مسؤولة التنسيق والتواصل في شركة توتال، تالين زغيب، في حديث لـ”المدن”، أن الشركة “لم تصدر بياناً رسمياً في هذا الشأن”. أما وزارة الطاقة وهيئة إدارة قطاع البترول، فلا جواب من ناحيتهما أيضاً.
التجربة العلمية تستدعي التساؤلات
يستغرب مهندس البترول وخبير الحفر والتنقيب محمود الجمّال “سرعة الانتقال إلى موقع الحفر الثاني وتركيب الحفارة وحفر البئر واستخلاص النتائج خلال نحو أسبوعين، علماً أن الشركة لم تصل إلى العمق المتفق عليه وهو 4400 متر، فبالإمكان إيجاد الغاز على عمق 10 أو 20 متراً مثلاً، في حال استكمل الحفر”. ومع أن لا جواب رسمياً من المعنيين، فرغم ذلك، تبقى التساؤلات مطروحة وبحاجة إلى إجابات علمية مدعومة بالوثائق التي يجب أن تنشر في وسائل الإعلام ليراها الجمهور.
ويشرح الجمّال في حديث لـ”المدن”، أن الوصول إلى خلاصة عدم وجود غاز في البئر المحفور، يجب أن يستند إلى “نتائج عملية التصوير التي يفترض بالشركة إجراؤها لتتبيَّن خلالها الطبقة التي وصلت إليها وظهر معها ما تحتويه، سواء كانت مياهاً أو نفطاً أو غازاً. ومن المفترض أن تجري الشركة اختبارات على عيّنة مقتطعة من الطبقة التي وصلت إليها، وتُحلَّل العيّنة في المختبر، وهذه عملية تتطلّب وقتاً إضافياً”. ويستغرب الجمّال عدم تقديم البيانات التي تظهر “الآثار التي عثرت عليها الشركة أثناء الحفر، مهما كان نوعها. فهل يعقل عدم وجود آثار هيدروكاربونية أو شيء آخر؟”.
ويزيد حجم الشكوك حول المعلومات التي تقول بأن ما عثرت عليه الشركة هو المياه فقط. إذ أن “المياه عادة تبقى في الأسفل، ويعلوها طبقة النفط ثم طبقة الغاز، وهذا هو ترتيبها، وأي تسرُّب أو رحيل لطبقة معيّنة، فإن آثارها تبقى موجودة، ولا يمكن العثور على مياه فقط”.
لحسم هذا الجدل، على شركة توتال ووزارة الطاقة تقديم كل الأوراق والمعلومات والصور والبيانات والتصوير الجيوفيزيائي.. وكل ما يتعلّق بالمعلومات المتوفرة حول حقل قانا.
ومع عدم الإفراج عن المعلومات في حال وجودها، لا يستغرب الجمّال هذا الواقع، لأن الدولة اللبنانية لم ترسل من البداية أي خبير في حفر الآبار إلى منصة الحفر، ولا أحد يعرف فحوى “التقارير اليومية التي تسجّلها شركة توتال خلال الحفر. ففي أي عملية حفر، يقوم الطاقم بتسجيل كل المعلومات ساعة بساعة، من مسار الحفر إلى الأدوات المستعملة والمعدّات التي يتم تغييرها وطبقات الأرض والمعوّقات التي تواجه الحفر وسرعة الحفر.. وما إلى ذلك. فكلّها معلومات تفيد في الوصول إلى النتائج الصحيحة”.
صعوبة حفر البئر الأول والإيحاء بعدم وجود غاز في البئر الثاني، يضفي صورة سلبية عن احتمال حفر بئر ثالث وانتظار نتائجه. كما أن الأسلوب الضبابي الذي تُدار به عملية الإفراج عن المعلومات المتعلّقة بالحفر ونتائجه، يرجّح وجود ما يُراد إخفاؤه من قرارات ذات أبعاد سياسية مرتبة بملفّ التنقيب، ولا يريد أحد من القوى السياسية حمل وزر كشفها علانية، فتبقى ضمن دائرة تسريبات لا يتبنّاها أحد، إلى حين بروز معطيات جديدة.