ابتداءً من يوم أول أمس الأربعاء، انتقل المصرف المركزي لاعتماد 15,000 ليرة للدولار الواحد كسعر صرف “رسمي”، عوضًا عن 1,507.5 ليرة للدولار، التي تم اعتمادها كسعر صرف واقعي ورسمي منذ التسعينات.
ومنذ أن نقلت “رويترز” هذا الخبر عن حاكم مصرف لبنان، انشغل اللبنانيون بالبحث عن مغزى هذا التعديل وتداعياته على عمليّاتهم اليوميّة، خصوصًا أن غابة أسعار الصرف المتعددة القائمة اليوم حددت أساسًا سعر صرف خاص لكل نوع من العمليّات، بمعزل عن سعر الصرف الرسمي هذا.
في خلاصة الأمر، كان من الواضح أنّ أثر سعر الصرف الرسمي الجديد لن يمثّل خطوة باتجاه توحيد أسعار الصرف القائمة، بل وعلى العكس تمامًا: سيكون مخرجًا للتملّص من هذا الاستحقاق، وتفادي التعامل مع الخسائر المتراكمة في ميزانيّات المصارف، لحماية رساميل أصحابها.
أثر محدود على غابة أسعار الصرف المتعددة
بعيدًا عن سعر الصرف الرسمي الجديد، من المعلوم أنّ سعر صرف المنصّة بات معتمدًا بشكل أساسي لتسديد رسوم معظم الخدمات العامّة، كحال قطاعي الخليوي والكهرباء مثلًا. ورغم توازي سعر الصرف المعتمد لسداد الرسم الجمركي والضريبة على القيمة المضافة مع سعر الصرف الرسمي، عند حدود 15 ألف ليرة للدولار، إلا أنّ تحديد سعر الصرف هذا جرى بموجب قرارات من وزارة الماليّة منذ أواخر العام الماضي، ووفقًا لغطاء قانوني من موازنة العام الماضي. وبهذا المعنى، لم يؤثّر قرار المصرف المركزي فعليًّا على هذا الإجراء، بل تلاه وتوازى معه.
أمّا سعر الصرف المعتمد للسحوبات من المصارف، فما زال رهينة تعاميم المصرف المركزي، التي أبقت هذا السعر عند حدود 8000 ليرة للدولار حتّى نهاية الشهر الحالي، بموجب قرار المجلس المركزي يوم الإثنين الماضي. وعلى هذا الأساس، لا يوجد ما يلزم المصرف المركزي في المستقبل بمواءمة سعر الصرف هذا مع سعر الصرف الرسمي الجديد، طالما أنّ مرجعيّة سعر صرف السحوبات هي التعاميم، بكل ما تحمله من استنسابيّة يملكها اليوم حاكم مصرف لبنان.
ولذلك، بات من الصعب فعليًّا تلمّس أثر ما جرى صبيحة يوم أمس، على مستوى عمليّات المواطنين اليوميّة. وحتّى في ما يتعلّق بديناميكيّات العرض والطلب في السوق الموازية، من الطبيعي أن تتأثّر هذه التوازنات بسعر صرف المنصّة، المتعمد في العادة عند ضخ مصرف لبنان للدولارات وبيعها عبر المصارف، فيما يصعب العثور على أثر الـ”15,000 ليرة للدولار” في معادلات هذه السوق.
في النتيجة، يمكن القول أن العمليّة الوحيدة التي يمكن أن تتأثر بهذا التغيّر على مستوى المواطنين، هي عمليّة تسديد القروض المدولرة بالليرة، والتي أصبح بإمكان المصارف فرضها وفقًا لسعر الصرف الجديد، ما حرم المقترضين من إمكانيّة محاولة تسديدها وفقًا لمعادلة 1,500 ليرة للدولار كما كان يجري سابقًا. مع الإشارة إلى أنّ المصارف كانت قد توقّفت منذ زمن بعيد عن قبول دفعات هذه القروض بالليرة، بالسعر الرسمي، إلا في حالات استثنائيّة جدًا، فيما عمدت إلى اشتراط تأمين الدفعات بالشيكات المصرفيّة أو بالدولار الطازج.
إعادة هندسة الخسائر
كما بات معلومًا اليوم، تعتمد المصارف على سعر الصرف الرسمي للتصريح عن ميزانيّاتها، بما فيها فجوة الخسائر بالعملات الأجنبيّة، التي تمثّل الفارق بين إلتزاماتها وموجوداتها بالعملة الصعبة. ولهذا السبب، يمكن القول أن الأثر الأساسي للتغيير الذي جرى يوم أمس، سيكون على هذه الميزانيّات، وعلى كيفيّة احتساب البنود المدولرة فيها. مع الإشارة إلى أنّ اعتماد سعر الصرف الرسمي القديم، المنخفض جدًا قياسًا بسعر صرف الفعلي في السوق، سمح للمصارف طوال الفترة الماضية بإخفاء فجوة الخسائر قدر الإمكان.
من الناحية العمليّة، كان من المتوقّع –وفقًا للتفاهم مع صندوق النقد الدولي- أن يخطط مصرف لبنان لمسار لتوحيد سعر الصرف، ما سيفرض على المصارف الانتقال للتصريح عن الميزانيّات، والخسائر المتراكمة فيها، حسب سعر الصرف الفعلي، المعوّم والموحّد، والمعتمد من قبل المصرف المركزي.
إلا أنّ إشكاليّة هذا المسار، بالنسبة للمصارف، تكمن في أنّه يفرض التعامل مع كتلة الخسائر ومعالجتها، عبر إعادة هيكلة القطاع وإعادة رسملته، بعد شطب الرساميل التي يفترض أن تتآكل لتحمّل أوّل شريحة من الخسائر. وبما أن حسابات توزيع الخسائر هي محور المعركة المستمرّة منذ ثلاث سنوات، لم يكن من المتوقّع أن يشرع المصرف المركزي أو المصارف بمسار توحيد سعر الصرف على هذا النحو.
البديل عن توحيد سعر الصرف كان حاضرًا: اعتماد سعر صرف إضافي وعبثي، على أساس كونه سعر صرف المرحلة الانتقاليّة، واعتبار هذا السعر الجديد –أي الـ15,000 ليرة للدولار- بمثابة السعر الرسمي الذي سيتم اعتماده في الميزانيّات المصرفيّة.
وبذلك، ستكون المصارف قد لجأت للتصريح عن ميزانيّاتها، وخسائرها بالدولار، بسعر صرف لا تتجاوز قيمته ربع سعر الصرف الرائج فعليًّا في السوق. وهذه الخدعة، ستسمح حكمًا بالاستمرار بإخفاء الجزء الأكبر من الخسائر وتفادي التعامل معها في الوقت الراهن. مع العلم أن كل ذلك يتعلّق بكتلة خسائر المتراكمة في ميزانيّات المصارف وحدها، من دون أن يشمل كتلة الخسائر الأهم والأكبر، المتراكمة في ميزانيّة مصرف لبنان، والمسؤولة عن تبديد 60 مليار دولار من أموال المودعين.
الحيل المحاسبية
ورغم تغاضي سعر الصرف الرسمي الجديد عن التصريح عن قيمة الخسائر الفعليّة، إلا أنّه سيزيد من قيمة الخسائر المصرّح عنها في الميزانيّات، نظرًا لارتفاع سعر الصرف المعتمد للتصريح عن الميزانيّة بنحو 10 أضعاف. وللتخلّص من هذه الفجوة في الميزانيّات، سمح مصرف لبنان للمصارف باعتماد بعض الحيل المحاسبيّة، لإعادة تقييم بعض بنود الموجودات وفقًا لسعر صرف المنصّة. وتكمن المفارقة هنا في أنّ المصرف المركزي سيكون قد سمح للمصارف باعتماد سعر صرف 15 ألف ليرة للدولار للتصريح عن الإلتزامات، مقابل اعتماد سعر صرف المنصّة لاحتساب قيمة الموجودات، ما سيسمح مجددًا بإخفاء كتلة إضافيّة من الخسائر.
باختصار، ما يجري لا يتجاوز حدود إعادة هندسة الميزانيّات، بعدما بات اعتماد سعر الصرف الرسمي القديم للتصريح عنها مجرّد نكتة سمجة، وبعدما بات القطاع المصرفي بحاجة لحيل محاسبيّة جديدة لحماية الرساميل وأسهم أصحاب المصارف. وكل هذه الإجراءات، لا تهدف إلا للهروب من استحقاق إعادة هيكلة القطاع المصرفي، بعد تحديد الخسارة والتعامل معها بشكل مباشر وشفّاف، وحسب خطّة تعافٍ متكاملة. أمّا إبقاء الخسائر على هذا النحو، فسيعني الإبقاء على أزمة المودعين مفتوحة على مصراعيها، والإبقاء على الأكلاف الباهظة التي يتحمّلها المجتمع نتيجة تعثّر القطاع المالي. وهذا المشهد، يتكامل بدوره مع المشهد الأوسع على المستوى المالي، المتمثّل في الإطاحة بخطة التعافي والتفاهم مع صندوق النقد، والانتقال إلى خيار الإبقاء على السقوط الحر القائم اليوم.