على جدول أعمال أولى الجلسات المقبلة للحكومة، يبرز مرّة جديدة بند تمرير مشروع لتعديل قانون النقد والتسليف، بعد أكثر من سنة وثلاثة أشهر من العمل هذه التعديلات، في لجنة شكّلها رئيس مجلس الوزراء نجيب ميقاتي خصّيصًا لهذا الغرض. لم يكن إطلاق هذا المشروع الطموح شكلًا والمتواضع فعلًا من بنات أفكار أي سلطة أو مرجعيّة محليّة، بل كان مفروضًا –كسائر الإصلاحات التي يتم البحث فيها- في إطار خطّة التعافي المالي، المتّفق عليها مع صندوق النقد الدولي. وفي التنفيذ، كما حصل في ملفّات أخرى، جرى إفراغ الفكرة من مفاعيلها وأهدافها، لتقتصر على بعض العناوين البعيدة عن إصلاح هيكليّة المصرف المركزي. هواجس الطوائف، والخوف من إثارة هذه الهواجس، لم يكونا بعيدين عن كل هذا النقاش.
الوضع الهجين الناشئ تاريخيًا
لم يكن غريبًا أن يُطلب من لبنان البحث في حوكمة وهيكليّة مصرف لبنان، بعد كل ما جرى وانكشف بعد العام 2019. تركّز الصلاحيّات بيد حاكم مصرف لبنان، وتضاربها، كانا يكفيان لخلق بيئة مُسهّلة لكل أشكال سوء الإدارة أولًا، ومن ثم الإفلات من الرقابة الماليّة ثانيُا. لم يكن تفصيلًا أن يكون هناك عمليّات احتياليّة تجري منذ العام 2001 على أقل تقدير، من دون أن تثير شكّ أي جهة رقابيّة داخليّة أو خارجيّة، بل ومن دون أن يُقيّد تحويل مليارات الدولارات سوى شخطة قلم من رياض سلامة.
يمكن الوصول إلى مسألة تضارب الصلاحيّات بمراجعة ما تراكم من مهام مرتبطة بحاكميّة مصرف لبنان، على مرّ السنوات. فالحاكم هو أولًا المسؤول عن تنظيم القطاع المصرفي وحوكمته، وهذا مفهوم بحكم طبيعة المنصب نفسه. ثم يعطيه القانون صلاحيّة ترؤّس المجلس المركزي في مصرف لبنان، المسؤول عن وضع السياسة النقديّة. وعند خلق هيئة التحقيق الخاصّة، المختصّة بمكافحة تبييض الأموال، بات الحاكم رئيسها، وكذلك بالنسبة لهيئة الأسواق الماليّة عند تأسيسها. أمّا لجنة الرقابة على المصارف، فتعمل وفق استقلاليّة ظاهريّة عن الحاكم، لكنّها تقاريرها تبقى حبرًا على ورق ما لم يتّخذ الحاكم إجراءً على أساسها. والهيئة المصرفيّة العاليا، الجهاز القضائي المصرفي، تعمل برئاسة الحاكم أيضًا، وبحسب الإحالات التي يقوم بها بنفسه.
لم يكن هذا هو الحال عند إصدار قانون النقد والتسليف للمرّة الأولى عام 1963، والذي أنشأ مصرف لبنان للمرّة الأولى، بعدما كان بنك سوريا ولبنان مسؤولًا عن إصدار النقد. غير أن التشريعات اللاحقة منذ ذلك الوقت، راكمت الصلاحيّات بيد الحاكم وحده، مع توالي تأسيس سائر الهيئات المرتبطة بشكلٍ أو بآخر بمصرف لبنان. ومنها على سبيل المثال القانون الرامي إلى “تعديل وإكمال التشريع المتعلّق بالمصارف” عام 1967، ولاحقًا القوانين التي حدّدت صلاحيّات هيئة التحقيق الخاصّة وهيئة الأسواق الماليّة وغيرها. وهكذا، لم تتم صياغة صلاحيّات الحاكم، المرتبطة بهذه الهيئة، وفق رؤية تضمن توزيع سلطة الإشراف والرقابة والحوكمة.
في خلاصة الأمر، باتت حاكميّة مصرف لبنان تضع أطر الحوكمة، وتراقب تنفيذها، وتحاسب على المخالفات، وتلاحق عمليّات تبييض الأموال، وتضع التنظيمات المرتبطة بمصرف لبنان نفسه، ومنها تلك التي ترتبط بالتعيين والهيكليّة الإداريّة. ولو وضعنا ناسكًا في الحاكميّة، لما كان من المتوقّع أن نأمل حُسن الإدارة في بيئة ملتبسة من هذا النوع. ما سبق ذكره، لا يقلّل من شأن الانتهاكات التي يُشتبه بارتكابها من قبل الحاكم السابق، والتي يحقّق بشأنها القضاء اليوم. لكنّه يوضّح البيئة الإداريّة التي سمحت بهذه الانتهاكات منذ البداية، والتي أدّت إلى تراكم كتلة من الخسائر في الميزانيّات، من دون أن يتم الكشف عنها لغاية العام 2019.
الإصلاحات المتفق عليها مع صندوق النقد
على هذا الأساس، وعند وضع خطّة التعافي المالي بالاتفاق مع صندوق النقد، كان من الطبيعي أن يتم تخصيص بند كامل في تلك الخطّة للإصلاحات المتصلة بحوكمة مصرف لبنان. ومنها على سبيل المثال، “تعزيز الأحكام بشأن تضارب المصالح”، وفصل مصرف لبنان عن دوره الحالي في هيئة التحقيقات الخاصّة وهيئة الأسواق الماليّة ولجنة التحقيق الخاصّة والمجلس الأعلى للمصارف. كما نصّت الخطّة على تعزيز استقلاليّة المصرف المركزي، وتعزيز التدابير المتخذة لتعيين إدارة المصرف وموظفيه، وتطبيق آليّات اتخاذ قرار جديدة داخل مصرف لبنان وتعزيز الرقابة على أعماله ومنعه من تمويل عجز الميزانيّة.
جزء كبير من هذه الإصلاحات المُتفق عليها، جاء بدافع الحرص على عدم تكرار “نموذج رياض سلامة”. نموذج رياض سلامة، يعني تسليم المصرف إلى سلطة امتلكت صلاحيّة تعيين الموظفين والإداريين بقرار شخص واحد، وتحويل الأموال بتوقيع هذا الشخص أيضًا، ومن ثم الإفلات من أي رقابة داخليًا بفعل إمساك هذا الشخص بسائر صلاحيّات الإشراف والمراقبة. بمعنى آخر، كان من المفترض أن يتم إقرار هذه الإصلاحات، لعدم تكرار ما جرى عام 2019. ولهذا السبب بالتحديد، لم يكن من الممكن الاتفاق على خطّة التعافي المالي كما أقرّتها الحكومة في أيّار 2022 من دون هذه البنود، التي كان يجب أن تستند إلى معايير “تقييم الضمانات الوقائيّة”، المعمول بها من قبل صندوق النقد الدولي.
إفراغ الإصلاحات من أهدافها
منذ تشكيل اللجنة المختصّة بصياغة هذه التعديلات، كان الهاجس الطائفي محيطًا بعملها. وبعبارة أدق، كان ثمّة خوف من المساس بأساس الصلاحيّات المرتبطة بالحاكميّة، كي لا يتم العبث بالتوزنات التي ترعى توزيع المناصب العليا على الطوائف اللبنانيّة. منصب الحاكم، يُعد المنصب الماروني المالي الأرفع في الجمهوريّة، وإعادة النظر في صلاحيّاته قد يفتح الباب على المطالبة بتعديل صلاحيّات مناصب أخرى، مثل وزارة الماليّة. المسألة الطائفيّة كانت حاضرة دومًا في نقاشات اللجنة، وقرارها الأخير استند إلى هذا الهاجس بالدرجة الأولى. ومن هذه الزاوية، يمكن فهم طبيعة الإصلاحات التي خلصت إليها أخيراً.
وضعت اللجنة بعض المقترحات ذات الطابع المالي والنقدي، إذ اقترحت تعديل المواد التي تربط سعر الليرة اللبنانيّة بالذهب، لتقترح آليّات أخرى تضع سعرًا قانونيًا لليرة اللبنانيّة وفق معايير أكثر حداثة، مع وضع بنود تنظّم المرحلة الانتقاليّة. كما اقترحت بنودًا تنظّم التعامل مع احتياطات المصرف المركزي بالعملات الأجنبيّة، وتضع آليّات جديدة للرقابة الداخليّة في مصرف لبنان، كما تستحدث لجان جديدة لتحديد معالم السياسة النقديّة وسياسات تقييم المخاطر وإدارتها. وفيما يخصّ مهام المجلس المركزي بالتحديد، حاولت التعديلات تعزيز دور وحضور هذا المجلس، من دون المساس في الشكل بصلاحيّة الحاكم في إدارته.
في النتيجة، جاءت المقترحات بعيدة عن التعديلات الجذريّة التي وعدت بها خطّة التعافي المالي، إذ من الصعب جدًا تصوّر أي إصلاحات على هذا المستوى من دون تفكيك البنية الأساسيّة لترابط الصلاحيّات، التي تصب جميعها في منصب حاكم مصرف لبنان. والنقاش هنا، مازال محكومًا بالحسابات الطائفيّة، بدل أن ينطلق من أولويّة إعادة الهيكلة الشاملة، التي تأخذ بعين الاعتبار دروس المرحلة الماضية وإخفاقاتها.