عندما حلّ الأول من تموز، ارتفعت أسعار الاتصالات في الخلوي حصراً. قرار زيادة التعرفة اتّخذه مجلس الوزراء في جلسة عقدت في 20 أيار، أي منذ شهر ونصف شهر. لكن مفاعيله بدأت تظهر منذ الآن: اتهامات بحصول عملية نصب واحتيال على المشتركين، ودفاع عن قرار لو لم يتخذ لكان القطاع انهار. المسألة هنا يتداخل فيها القانون، مع نظام الفوترة في شركتي الاتصالات، مع عامل أساسي هو الانهيار. فالخلط جارٍ بين ما قبل الانهيار وما بعده ليصبح السؤال الأساسي على كل لسان: لماذا أدّى قرار زيادة بضعة سنتات إضافية إلى انتفاضة جماهيرية واسعة، بينما زيادة الأسعار الأخيرة لم تخلق موجة غضب واحدة… بعد؟
يوم قرّر مجلس الوزراء زيادة تعرفة الاتصالات عبر آلية تعديلها لتصبح محسوبة على سعر «صيرفة»، هدّد وزير الاتصالات جوني قرم بالاستقالة إذا لم ينفّذ القرار. «لو لم يُتخذ هذا القرار لكانت شركتا الخلوي معرضتين للإفلاس، وكان انهيار القطاع حتمياً». بهذه العبارة يعزو قرم سبب تهديده بالاستقالة. لكن في المقابل، هناك ردّ آخر أتاه من نائب جديد وفد إلى المجلس النيابي هو فراس حمدان: «يا ريتو قشط القطاع وما زدنا التعرفة». ولم يكتف الفريق النيابي الجديد بهذا الردّ، بل تحرّك أحد محامي النائبة بولا يعقوبيان، بتقديم شكوى بوصفه «رئيس قوّة العمل اللبنانية لمكافحة الفساد»، ضدّ شركتي الخلوي «ألفا» و«تاتش» مدّعياً بحصول جرائم نصب واحتيال بسبب تحويل الوحدات المخزنة في الهواتف الخلوية من الدولار إلى الليرة على سعر صرف يبلغ 1500 ليرة، ثم إلى الدولار مجدداً على سعر صرف المنصّة، أي 25200 ليرة. وهذا الادعاء أثار ضجّة واسعة أمس، باعتبار أن الناس خسرت ما كانت تختزنه بعملية نصب عن سابق إصرار وتصميم.
هذا هو السياق الظاهر للمسألة، إنما الموضوع أكثر تعقيداً. فالسياق الفعلي يعود إلى سنوات مضت عندما كان القطاع درّة تاج إيرادات الخزينة في لبنان. في عام 2018 حوّلت وزارة الاتصالات نحو 1300 مليون دولار. بين عام 2011 و2020 حوّلت الوزارة إلى الخزينة نحو 13 مليار دولار. وكانت تعرفة الاتصالات هي الأغلى عالمياً، إذ بلغ متوسط الإيرادات من المشترك الواحد نحو 32 دولاراً في شركة «تاتش» و24.8 دولار في شركة «ألفا». وكان الفساد مستشرياً في الشركتين اللتين تعملان في قطاع وصفه يوماً رئيس مجلس النواب نبيه برّي بـ«نفط لبنان». هو النفط المنهوب. لكن النهب كان على قياس مرحلة ما قبل الانهيار. إذ إن زيادة تعرفة الاتصالات على الواتس آب تحديداً، عشية 17 تشرين الأول 2019، لم يكن سوى تتويجاً لمرحلة سابقة تخللتها هندسات مالية نفذها مصرف لبنان لتفرز أرباحاً هائلة لأصحاب المصارف. فضلاً عن نهاية القروض السكنية المدعومة لمتوسطي الدخل والأقلّ دخلاً مقابل استفادة الأكثر ثراء بلا سقوف في السنوات السابقة. أيضاً نكثت السلطة بتعهداتها بالحفاظ على عجز متدن في الموازنات، وفرضت المزيد من الضرائب والرسوم. أصلاً كانت موازنات السنوات السابقة لم تقرّ (وما زالت بلا إقرار لغاية اليوم)، ولم تحصل أي مساءلة أو محاسبة. باختصار الانتفاضة لم تُشعلها تلك السنتات الزيادة على الواتس آب.
لكن ما ينطبق على ما قبل الانهيار، لا ينطبق على ما بعده. فالانتفاضة قُمعت بقوّة. والفرقة التي استطاعت التحايل على القمع دخلت إلى المجلس النيابي لتصبح جزءاً من قوّة السلطة. أما في هذه الفترة، فقد حصل أبشع ما يشهده أي مجتمع: التضخّم. هو الضريبة التي فرضتها قوى السلطة التي فوّضت إدارة الأزمة لحاكم مصرف لبنان رياض سلامة. فمن بعد ثلاث سنوات على الأزمة، تراكم التضخّم ليبلغ 1000%. هذا التضخّم كبّد الناس خسائر هائلة مباشرة في المداخيل، وفي المدخرات. وما زال النقاش قائماً اليوم حول من يتحمّل وزر الخسائر في القطاع المالي، والخسائر التي سيتحمّلها الاقتصاد لعقود آتية. وفي هذا الوقت، قرّرت السلطة ممارسة المزيد من التضخّم لتذويب هذه الخسائر وقمع من لم يُقمع بعد. فأوقفت تمويل استيراد الفيول للكهرباء، ورفعت أسعار المازوت المستخدم بشكل أساسي لمولدات الأحياء والتدفئة الجبلية شتاء، ثم رُفعت أسعار البنزين. كل ذلك حصل من دون أي اعتراض يُذكر. كان سعر صفيحة البنزين 45 ألف ليرة، واليوم يبلغ 700 ألف ليرة. وكان سعر صفيحة المازوت لا يتجاوز 55 ألف ليرة وصار اليوم 714 ألف ليرة… ثمة الكثير مما حصل خلال هذه الفترة، إنما بات واضحاً أنه في هذا السياق، لم تعد شركتا الخلوي قادرتين على الاستمرار. فالإيرادات لم تعد تغطّي الكلفة التشغيلية. «كلفة المازوت صارت تبلغ 38 مليون دولار لدى الشركتين، أي أكثر من نصف المدخول المقدر بنحو 70 مليون دولار» وفق قرم. وفي هذا الوقت أيضاً، وعلى وقع الأخبار عن نوايا السلطة برفع تعرفة الاتصالات تبيّن أن هناك 1000 شخص لديهم 450 مليون دولار من وحدات الاتصالات مخزّنة في هواتفهم.
إذاً، ما هي الخيارات التي كانت متاحة؟ أولاً، أن يترك القطاع للانهيار، وهذا يعني أن هناك من سيشتريه بثمن بخس. وهي الفكرة نفسها التي تروّج لمسألة الاستيلاء على الأصول العامة بثمن بخس لتغطية خسائر القطاع المالي. الصندوق السيادي هو أحد الأمثلة الفاقعة على ذلك. أي خسائر محققة في لبنان يمكن تغطيتها بثمن زهيد. لكن المشكلة الأهم، أن انهيار القطاع، يعني انهيار أجزاء من القطاعات التي كانت تعتمد عليه، وهي أجزاء لا يستهان بموقعها الوظيفي والاجتماعي في لبنان. وهذا الأمر كان سيعزّز فكرة تفكّك المجتمع وانحلاله أكثر مما هي عليه الآن. ورغم أن السلطة لم تكن تفكر بهذه الطريقة، إلا أن انهيار القطاع وتحوّله إلى مؤسسة كهرباء لبنان ثانية تملك معامل لا يمكنها تشغيلها، لن يكون حدثاً عادياً.
على أي حال، كان قرار زيادة التعرفة أمراً حتمياً. لكن المشكلة كانت تكمن في كيفية فصل التعامل مع حاملي العدد الأقل من وحدات الاتصالات في هواتفهم، عن التعامل مع التجّار الذين خزنوا الوحدات بهدف بيعها بالدولار النقدي لاحقاً. عملياً، لم تكن هناك تقنيات تتيح هذا الفصل، وفي الوقت نفسه لا يسمح القانون بأي تمييز بين فئات حاملي الهواتف، وفي الوقت نفسه يفرض القانون على الشركات التسعير بالليرة والتقاضي بالليرة. وبين التسعير والتقاضي، كانت عملية الفوترة هي التي تتم بالدولار في الأنظمة المتوافرة لدى الشركتين. وتحويل الفوترة إلى الليرة يتطلب ملايين الدولارات التي لا تتوافر لدى الوزارة حالياً. لذا، جاءت الطريقة على الشكل الآتي: بما أن الجميع اشترى الوحدات المخزنة بالليرة اللبنانية على سعر صرف 1500 ليرة وبما أنها سجّلت في الهواتف بالدولار على سعر الصرف هذا، أعيد تحويلها إلى الليرة وفق سعر الصرف التي سجلت فيه، ثم حوّلت مجدداً إلى الدولار على سعر «صيرفة». هذه الوحدات مسعّرة أصلاً بالليرة، لكن سعر الصرف هو الذي اختلف. من يعتقد أن عملية النصب جرت بسبب قرار التعرفة الجديدة، هو واهم، لأن ضرب النصب حصل في سعر الصرف. لم يعترض أحد على أبواب مصرف لبنان، المسؤول الأول عن الحفاظ على قيمة النقد، وعلى سلامة الاقتصاد. ولم يعترض أحد أن الخسائر محققة في موازنة مصرف لبنان بقيمة تفوق 70 مليار دولار.
عملياً، تعرفة الاتصالات الجديدة وكل ما حصل من تعديلات في بنية الإنفاق والإيرادات في الشركتين، لا يلغي وجود الفساد والسرقات. فالأمر مستمرّ، إنما على مستوى مختلف. فعلى سبيل المثال، هناك آلية التسديد التي تعتمدها الشركات مع الموردين: هل سترضخ الشركتان بتسديد فواتير الموردين كاملة بالدولار النقدي وتخضع لضغوطات «باورتك» مثلاً؟ ما تطلبه الانتفاضة متوافر في البنزين والمازوت والكهرباء والمياه… إنما ليس هناك منتفضون بعد.