تحاول الدولة إخفاء عجزها عن الخروج من الأزمة، عبر موازنات لا تملك مقوّمات الستر. إذ إن أحوال الناس، وتحديداً موظّفي القطاع العام، تفضح ما يُعمَل على ستره. ولسوء حظ السلطة السياسية، تقع اليوم في مأزق ما اعتقدت في منتصف التسعينيات أنّه حلّ لإخفاء تضخّم القطاع العام وحجم الهدر المالي الذي تسبّبه عملية التوظيف العشوائي.
أحد الامتحانات الحالية أمام السلطة السياسية، هو إيجاد مخرج لتعويضات نهاية الخدمة لأجراء ومستخدمي الوزارات والمؤسسات العامة. فالمحاولات التي وجدت خلاصتها في المادة 93 من موازنة العام 2024، بقيت غير مقبولة. وأمام التخبّط، لا يرى الأجراء والمستخدمون أن للسلطة السياسية قدرة على وضع الحلول المناسبة، بل كل ما تفعله هو “دفع الناس للانتحار”.
تعويضات مجحفة تتآكل باستمرار
انعكست المسمّيات الوظيفية المبتدعة على ما يحصل عليه الأجراء والمستخدمون من الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي بعد نهاية خدمتهم. فهؤلاء لا يستفيدون من المعاش التقاعدي وانما من مبلغ مالي يُدفَع كتعويض لنهاية الخدمة. ولأن التعويض فقدَ قيمته الشرائية ويفقدها تباعاً مع تراجع سعر صرف الليرة، وسط عدم إيجاد حلّ مناسب، تداعى عدد كبير من أجراء ومستخدمي الإدارات والمؤسسات العامة المتقاعدين، إلى تأسيس “تجمّع الأجراء المتقاعدين في القطاع العام ومؤسساته”، بهدف الضغط على السلطة السياسية لتصحيح تعويضات نهاية الخدمة وتعويض مَن اضطر لسحبها وسط الأزمة الاقتصادية الممتدة منذ العام 2019.
وبحسب بيان للتجمّع، لخّصَ المتقاعدون مطالبهم بـ”الاستفادة من تقاعد مريح وذلك بتقاضي معاش تقاعد محترم وليس فتاتاً. العمل الجاد على إعادة احتساب تعويض نهاية الخدمة لدى الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي بما يتناسب وسعر صرف الدولار في السوق. إعفاؤنا من اشتراكات الضمان الصحي التي أصبحت عبئاً كبيراً، فالأجراء المتقاعدون لا دخل مالياً لديهم ولم يتقاضوا تعويضاتهم حتى الساعة. أن يشمل قانون التقاعد وأن يستفيد من تعديلاته كل من تقاعد أو مَن قبضَ تعويضه منذ بداية الأزمة وحتى الآن. حيث أن التعويضات التي صُرفت وسوف تصرَف لاحقاً فقدت كامل قيمتها”.
تبدأ حكاية هؤلاء من واقع قبضهم تعويضات نهاية الخدمة بلا قيمة فعلية. فبحسب المدير السابق لمركز الخدمات الإنمائية في مدينة النبطية، التابع لوزارة الشؤون الاجتماعية، حسين حمادة، تبلغ قيمة تعويضه “نحو 120 ألف دولار” قياساً على سعر صرف الدولار 1500 ليرة قبل الأزمة، واليوم تبلغ القيمة “نحو 2000 دولار”.
المأساة لم تقف عند هذا الحدّ. فحمادة قرَّر الحفاظ على استفادته من التغطية الصحية التي يقدّمها الضمان، من خلال دفعه اشتراكاً “بقيمة 2 مليون و800 ألف ليرة، تدفع كل 3 أشهر”، لكن التغطية التي يقدّمها الضمان في المستشفيات بالليرة “لا تكفي لسداد الفاتورة الاستشفائية. ما يعني أن الأجير المتقاعد المضمون، يدفع للضمان ولا يستفيد بشكل فعلي”.
لم يسحب حمادة تعويض نهاية الخدمة المخصص له من الضمان. فبحسب ما يقوله لـ”المدن”، فإن قيمته “غير محرزة”، بل فضَّلَ تركه لدى الصندوق على أمل إيجاد مخرج يرفع قيمة التعويض ليتلاءم “مع سعر صرف الدولار في السوق أو أي قيمة أخرى غير مجحفة”.
مشروع تقاعدي ملائم
في العمق، يأخذ الحل الأنسب بُعداً يرتبط بالاستدامة، وذلك من خلال “مشروع تقاعدي ملائم”، وفق ما تقوله مصادر من بين مستخدمي المؤسسات العامة، في حديث لـ”المدن”. فهذا المشروع يضمن للمستخدمين والأجراء تغطية مناسبة. وتشير المصادر إلى أن إدارة الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي تصرّ على “ربط التعويضات التي يتضمّنها أي مشروع تقاعدي، بالحدّ الأدنى للأجور الذي يتغيَّر في حال حصول متغيّرات كالتي حصلت على ضوء الأزمة الاقتصادية، اذ ارتفع الحد الأدنى للأجور. ولعلمه بالإجحاف الذي طال التعويضات، لم يبادر الصندوق إلى دفع تعويضات نهاية الخدمة منذ نحو سنتين، وبدأ أخيراً بدفعها على سعر 15000 ليرة لتحسين قيمتها”.
محاولات التحسين التي وضعتها موازنة العام 2024 غير مرضية، بحسب المصادر. حتى أن الضمان الاجتماعي استغربها لما فيها من غموض، سيّما حول كيفية تأمين التمويل الكافي لسد الفروقات المالية للتعويضات. كما أن الضمان يستغرب كيف تميِّز المادة 93 من الموازنة التعويضات بين ما قبل العام 2023 وما بعد العام 2024. فالمادة التي حملت عنوان “معالجة استثنائية لتعويضات نهاية الخدمة وفقاً لأحكام المادة 51 من قانون الضمان الاجتماعي”، نصّت على أنه “يحتسب تعويض نهاية الخدمة بما يعادل عن كل سنة خدمة، الأجر الذي تقاضاه صاحب العلاقة، خلال شهر كانون الأول 2023 عن سنوات الخدمة لما قبل 31/12/2023 على أساس 15000 ليرة لبنانية للدولار الواحد. كما ويعادل عن كل سنة خدمة الأجر الذي تقاضاه صاحب العلاقة خلال شهر كانون الأول من كل عام، أو خلال الشهر الذي سبق تاريخ نشوء الحق بالتعويض بعد 1/1/2024 عن كل سنة خدمة محتسباً وفقاً لأحكام قانون الضمان الاجتماعي”.
وفي محاولة للتوفيق بين المبادرات التي تتّخذ أشكال القوانين ومشاريع القوانين، وبين ما يريده أصحاب الحقوق، ترى المصادر أن “المشروع الأضخم والأفضل هو اعتماد مشروع تقاعدي عام تبدأ مفاعيله منذ العام 2021، وعندها يصبح الحديث عن تعويضات نهاية الخدمة العالقة اليوم، أقل أهمية”.
أما في حال استمرّت السلطة السياسية بتجاهل موضوع تعويضات نهاية الخدمة “فهذا يعني خربان بيوت الكثير من المتقاعدين”. وتحّذر المصادر من أن “الاستمرار بهذا النهج، يدفع الكثير من المتقاعدين إلى الانتحار، لأن التعويضات الحالية المذلّة لا تكفي ثمن عملية استشفائية في المستشفيات الخاصة، وبعدها لن يجد المتقاعد ما يسنده، فقد لا يجد أمامه سوى الانتحار، خصوصاً وأنه لا يملك راتباً شهرياً”.
تركض السلطة السياسية نحو إيجاد حلول لأزمتها، تتلخّص بتلميع أرقام موازناتها، لكنها في الواقع لا تجد حلولاً جذرية. لذلك، يطالب المتضرّرون بأن يكونوا جزءاً من حلٍّ صحيح يوقف استنزاف تعويضات نهاية الخدمة.