“…وَلكِنْ إِنْ فَسَدَ الْمِلْحُ فَبِمَاذَا يُمَلَّحُ؟”، سؤالٌ طرحه يسوع المسيح أمام تلامذته بعد انتهاء التطويبات ذات يوم، كما جاء في إنجيل متّى، تحذيرًا من حالةٍ يصبحُ فيها خطّ الدفاع الأخير، مصدر الخراب النفسه. ولعلّ هذه العبارة بالذات، هي ما يصف آخر ما توصّل إليه المحققون في الوفود القضائيّة الأوروبيّة، في ما يخص الارتكابات التي تورّط فيها حاكم مصرف لبنان وشقيقه وشركاؤهما.
باختصارٍ شديد، كان من المفترض أن تكون مكافحة تبييض الأموال من صلاحيّات هيئة التحقيق الخاصّة، التي تخابرها المصارف عند وجود شبهة ما، لاتخاذ القرار المناسب. لكن كيف سيكون الحال حين يصبح المستفيد من تبييض الأموال رئيس الهيئة والقابض على قرارها، حاكم المصرف المركزي؟
وكان من المفترض أن يكون انتظام العمل المصرفي، ومنع توريطه في المزيد من الانكشاف على سندات الدين وشهادات الإيداع، من مهام المصرف المركزي أيضًا. لكن كيف سيكون الحال حين يصبح المستفيد من تورّط المصارف في هذه المجازفات، وبعمولات مجانيّة وخياليّة، حاكم المصرف أيضًا؟ في خلاصة الأمر، ما جرى في المصرف المركزي سيكون قصّة يستقي منها التاريخ دروسًا، في الخراب الذي ينجم عن تضارب وتركّز الصلاحيّات، وسوء الحوكمة، وترابط مصالح السياسيين والمصرفيين مع إداريي المصارف المركزيّة.
ثلثي الأموال بيّضها سلامة عبر المصارف اللبنانيّة
وفقًا لآخر معطيات التحقيق، بلغت نسبة الأموال التي بيّضها الشقيقين سلامة عبر المصارف اللبنانيّة، بعد إيداعها في سويسرا، نحو ثلثي القيمة الإجماليّة للأموال المختلسة من مصرف لبنان، والبالغة نحو 326 مليون دولار. وحين نتحدّث عن غسل كميّة ضخمة من الأموال بهذا الشكل، وعبر خمسة مصارف فقط لا غير، فنحن نتحدّث حكمًا عن خطايا لا تُغتفر ارتكبتها المصارف الخمسة، وعن تقصير في إجراءات الامتثال التي كان من المفترض أن تتأكّد من مصدر الأموال ووجهتها، خصوصًا إذا استخدم عميلها –أي رجا سلامة في هذه الحالة- الحسابات المصرفيّة كحسابات وسيطة فقط لا غير. مع الإشارة إلى أنّ مصدر التحويلات، لم يكن سوى شركة مسجّلة في جزر العذارى، ما كان يفترض أن يقرع ناقوس الخطر بالنسبة للمصارف الخمسة، نظرًا لارتفاع مخاطر تبييض الأموال في حالة الشركات المسجّلة في الملاذات الضريبيّة.
ومن المهم الإشارة هنا إلى أن رجا سلامة قام بتمرير هذه التحويلات من حساب شركة فوري في سويسرا، باتجاه حساباته الخمسة الموجودة في لبنان، قبل إعادة تدويرها ومن ثم تحويلها إلى شركات وحسابات شقيقه رياض سلامة في أوروبا مجددًا، من دون أن ترتبط هذه التحويلات بأي مستندات أو عقود تثبّت سبب أو هدف هذه التحويلات. ببساطة شديدة، ما جرى لم يكن سوى عمليّات وقحة، يعلم أي مبتدئ في العمل المصرفي خطورتها وحساسيّتها، بل ونوعيّة المخاطر التي تحملها.
في الوقت نفسه، قد يطرح أي شخص السؤال الوجيه التالي: أي إجراء كان من المفترض أن تتخذه المصارف الخمسة؟ القانون، ينص ببساطة على تبليغ هيئة التحقيق الخاصّة بهذه التحويلات، من دون أن يتم حتّى إشعار العميل بوجود شكوك في عمليّاته. أي بصورة أوضح: صلاحيّة التدخّل موجودة لدى هيئة يسيطر على قرارها المستفيد النهائي من هذه التحويلات، الشخص الذي بات مشتبهًا به اليوم، حاكم مصرف لبنان رياض سلامة. هل كان من المتوقّع أن تتدخّل الهيئة لتمنع عمليّات مشبوهة يستفيد منها رئيسها؟ وهل كان من المتوقّع أن يقوم حاكم مصرف لبنان بإدراج مقترح على جدول أعمال الهيئة، يقضي بمنعه من تلقي تحويلات شقيقه الصادرة من لبنان؟
تمرّد المصارف على رجا سلامة هنا، كان سيحتاج إلى ما يُعرف “بإطلاق الصافرة”، Whistle Blowing، أي إفشاء الشبهات على نحوٍ علني، لتفجير الفضيحة في وجه الهيئة والحاكم وشقيقه. بالإمكان القول أن المصارف تجاهلت مخاطر العمليّات وغامرت بتمرير التحويلات. وبالإمكان القول أيضًا أن رياض سلامة وشقيقه ورّطا المصارف في مغامرتهما. وهذه الورطة، قد لا تمر بلا ثمن على النظام المصرفي اللبناني.
عقوبات أو غرامات؟
من الصعب الجزم اليوم بالتداعيات التي سيتركها ملف رياض سلامة الجنائي على المصارف اللبنانيّة. في أسوأ الحالات، قد تصل الأمور إلى مرحلة فرض عقوبات معيّنة على أصحاب المصارف المتورّطة بعمليّات تبييض الأموال، أو على المصارف نفسها. وهذا السيناريو، قد يحصل إذا ما وجد المحققون بأن التورّط في عمليّات تبييض الأموال جرى عن سوء نيّة، أو عن تواطؤ متعمّد مع حاكم مصرف لبنان وشقيقه.
الطريف في هذه الحالة، أن الجهة التي يفترض أن تسعى لمعالجة أو متابعة سيناريوهات من هذا النوع، ليس سوى مصرف لبنان، الذي يديره حاليًّا المتورّط في عمليّات الاختلاس وتبييض الأموال، والذي سيكون أوّل المدعى عليهم في هذا الملف. هل سيسعى حاكم مصرف لبنان للتنسيق مع السلطات الأوروبيّة، لمتابعة العقوبات التي نتجت عن تواطؤ المصارف معه في عمليّات تبييض الأموال؟ سيكون المشهد سرياليًّا بلا شك.
في سيناريو آخر، قد يجد المحققون أن المصارف تورّطت في عمليّات تبييض الأموال عن حسن نيّة، أو عدم دراية بنوعيّة العمليّات التي تجري تحت ستار هذه التحويلات، ما سيجعل المحاكم الأوروبيّة تكتفي بفرض بعض الغرامات على المصارف. في هذه الحالة، سيكون على المصارف إثبات أن رجا سلامة زوّدها بما يكفي من مستندات وعقود لخداعها، والإيحاء بأن هدف التحويلات ليس سوى تمويل عمليّات تجاريّة مشروعة. لكن العقد الذي وقّعه رياض سلامة مع شركة شقيقه، الذي اقتصر على ثلاث صفحات فقط لا غير، للحصول على عمولات تقارب قيمتها 325 مليون دولار، لا يوحي بأن رجا سلامة بذل الكثير من الجهد لإخفاء معالم اللعبة التي قام بها.
في حالة بعض المصارف، كبنك الموارد مثلًا، وجد المحققون سحوبات نقديّة تتجاوز قيمتها 650 ألف دولار، في إشارة كان من المفترض أن يتلقفها سريعًا أي مبتدئ في العمل المصرفي يعمل في البنك، تجاه مخاطر ما يجري. مع الإشارة إلى أن رصيد حساب رجا سلامة هناك تضخّم عبر السنوات من 15 مليون دولار عام 1993، إلى 150 مليون دولار في أيلول 2019، قبل أن يتم تحويل المبالغ سريعًا إلى الخارج، قبل شهر من حصول الانهيار المصرفي.
باختصار، لقد ورّط رياض سلامة المصارف في لعبته، ولن يمر ما جرى من دون تداعيات ثقيلة ستطال المصارف الخمسة المتورّطة معه، بمعزل عن مصير الحاكم نفسه. ولعلّ المصارف المعنيّة بالملف قامت بخطوة جيّدة خلال الأيّام القليلة الماضية، عبر غسل أيديها من مغامرة الحاكم، وإبداء الإيجابيّة مع المحققين الأوروبيين. إلا أنّ إيجابيّة المصارف المستجدة قد لا تكون كافية وحدها، للتملّص من مسؤوليّاتها القانونيّة تجاه ما جرى.