أجمعت المواقف الدولية على أن تفجير مرفأ بيروت في 4 آب 2020، يمثّل أحد أبرز الأحداث خلال هذا القرن، لناحية حجم التفجير والدمار الذي خلّفه. أمّا الغوص في الخصوصية اللبنانية لتحليل ما حصل، فيخلص إلى أن هذا التفجير ليس إلاّ نتيجة طبيعية لآلية إدارة السلطة للبلاد خلال الحرب الأهلية وبعدها، والتي تستحيل أن تُكمل سيرها من دون الوصول إلى انفجار ما. لكن ما لم يكن متوقّعاً، هو حجم التفجير وتداعياته التي زادت الضغط الاقتصادي والاجتماعي على اللبنانيين، بفعل إقفال مرفق حيوي وأساسي في عملية الاستيراد، فضلاً عن تضرّر الكميات الهائلة للقمح والحبوب التي كانت في الإهراءات، وخلَّفَ تضرّرها فجوة في إمداد السوق بالقمح.
واللافت، هو تلازم ذكرى التفجير، مع إقرار البنك الدولي بأن “إفلاس النظام متعمَّد”. فالتقرير الصادر قبل يوم واحد من الذكرى الثانية للتفجير، يعيد إلى الأذهان جملة التحذيرات التي كانت تطلقها وكالات التصنيف العالمية، وإن كانت في مكان ما، قد عملت على إخفاء الصورة الحقيقية للوضع المالي وواقع القطاع المصرفي. وبعيداً من مواقف البنك الدولي ووكالات التصنيف وأهدافهما، إلاّ أن المنظومة الحاكمة بفرعيها السياسي والمصرفي، رفضت وما زالت، إجراء الإصلاحات المطلوبة. تماماً كما رفضت وما زالت، الاعتراف بمسؤوليتها عن تفجير المرفأ، وتحاول طمس معالم جريمتها كما تحاول طمس مسؤوليتها عن انهيار البلاد.
مؤشرات العهد القوي
مع انتخاب رئيس الجمهورية ميشال عون، كانت مؤشرات البلاد غير مشجّعة. فالوضع في سوريا يتفاقم سوءاً، والنزوح السوري يزداد إلى لبنان، وسنتان من الفراغ الرئاسي.. وغير ذلك من مؤشرات تتزايد وسط رفض السلطة إجراء الإصلاحات.
علماً أن تحذيرات المؤسسات الدولية كانت واضحة ومباشرة. فمع أن وكالة التصنيف الدولية “ستاندرد أند بورز”، صنّفت الديون السيادية بالعملات الأجنبية والمحلية، في آذار 2016، عند مستوى B وB-، إلاّ أنها عبّرت عن “نظرة مستقبلية سلبية” للبنان. ومع النظرة المستقبلية، كانت الدولارات تتدفّق من الخارج، بشكل أساسي، عن طريق تحويلات المغتربين، وتغذّي ودائع القطاع المصرفي الذي واصَل تسليف البنك المركزي، الذي بدوره يمدّ القطاع العام بالدولارات.
حذّرت الوكالة من التأثير السلبي للعوامل الداخلية والخارجية، على تدفّق التحويلات ونمو الودائع، وتالياً النمو الاقتصادي. وتراجعت تقديرات الوكالة لمتوسط نسبة النمو الاقتصادي الحقيقي من نحو 2.6 بالمئة إلى نحو 1.6 بالمئة. فضلاً عن التأثيرات السلبية لاستمرار تسليف مؤسسة كهرباء لبنان من دون إجراء إصلاح فعلي للقطاع. ناهيك عن تحذيراتها حول تراجع الاحتياطات الأجنبية والدخول في مرحلة انكماش، ما سيطيح بتدفق الودائع والرساميل ويهزّ كيان المالية العامة. وفي أيلول 2017، توقّعت الوكالة بقاء عبء الدين العام على الحكومة “مرتفعاً جداً حتى العام 2020″. الأمر الذي يعكس استمرار تدهور المالية العامة.
فضائح البنك الدولي
لم تتّعظ السلطة من محتويات التقارير الدولية وتحذيراتها، حتّى أتتها الضربة القوية من البنك الدولي الذي شكّل مظلّة مؤتمر سيدر الذي انعقد في نيسان 2018. قبل المؤتمر بشهر واحد، كان رئيس الحكومة سعد الحريري، يعد اللبنانيين بـ”برنامج يضم أكثر من 250 مشروعاً، ويفوق حجمه 16 مليار دولار”. مشدداً على “القيام بالإصلاحات الضرورية لتشجيع القطاع الخاص ومكافحة الهدر والفساد”. ومع ذلك، تجاهلت السلطة توصيات البنك الدولي بالبدء بإصلاحات ترتكز على ثلاثة أعمدة، هي “الحد من عجز الكهرباء، تعديل نظام التقاعد وإصلاح القطاع العام وضبط الرواتب والأجور”.
انعقد المؤتمر من دون أرضية “نظيفة” تحققها الإصلاحات، ما جعل أحد الاختصاصيين في البنك، يسرّب تسجيلاً يقول فيه أنه “لا يوجد أي دليل علمي يشير إلى أي تغير مع وجود هذه الطبقة السياسية. والبنك الدولي قام كل سنة، منذ العام 1999، بإعداد تقارير مفصلة عن كيفية معالجة الفساد وتخفيض الدين العام، لكن من دون نتيجة”.
وبعد نحو أربع سنوات، يخلص البنك الدولي إلى أن “إفلاس النظام متعمَّد”. ويستند في قراءته إلى “الخروج المنهجي والحاد عن سياسة المالية العامة المنظمة والمنضبطة. الفرص الضائعة لحماية الأغلبية الواسعة من المودعين بالدولار الأميركي. انهيار منظومة الخدمات العامة الأساسية التي كانت ضعيفة أصلاً، مما يضع العقد الاجتماعي في دائرة الخطر”.
بدء الانهيار
في العام 2019، لم تعد المنظومة قادرة على حماية الأرض التي تقف عليها. فبدأ تفتّت نظامها، بدءاً من تدهور سعر صرف الليرة. وقُبَيلَ تسارع الانهيار في تشرين الأول، عمدت وزارة المالية إلى التقليل من أهمية ما يجري، وأصرّت أن التحذيرات المحلية والدولية، ما هي إلاّ “تهويلات”. وفي آذار 2020 امتنعت حكومة حسان دياب عن تسديد مستحقات سندات اليوروبوند، وخفضت وكالة ستاندرد أند بورز تصنيف الديون السيادية إلى مستوى “تعثر انتقائي عن السداد”. وأيقنت أن “المحادثات بشأن إعادة هيكلة الدين قد تتعقد وتطول”.
خمسة أشهر بعد استشراف الوكالة سوء المرحلة المقبلة. فُجِّرَ مرفأ بيروت، ليدخل لبنان عهد الموت السريري مع إغلاق منفذه البحري الأساسي، بشكل شبه كامل. وعوضاَ عن فتح صفحة جديدة، تحاول السلطة حتى اللحظة التمسّك بنهجها السابق، خلافاً لكل التوصيات الدولية التي هلَّلَت لها للحصول على القروض والهبات. أما النتيجة، فلا مرفأ، ولا خبز، ولا كهرباء، ولا محروقات، ولا دولارات. والمضحك، أن هذا الفشل، مثبت بشهادات دولية.