نشرت جمعيّة المصارف هذا الأسبوع تقريرها الدوري، الذي يلخّص أبرز المؤشّرات الماليّة والنقديّة التي تخص القطاع المالي بشكل عام، وتلك التي ترتبط بماليّة الدولة وأحوال الاقتصاد المحلّي. الغوص في تلك المؤشّرات، يكتسب أهميّة خاصّة اليوم، لكونها تعكس التحوّلات التي طرأت لغاية بداية شهر كانون الأوّل الماضي، أي بعد أربع سنوات بالتمام والكمال على حصول الأزمة المصرفيّة في أواخر شهر تشرين الأوّل 2019. وبذلك يكون التقرير قد لخّص بشكل مثالي حصيلة سنوات الأزمة المستمرّة حتّى الآن، والتي ما زالت تترك آثارها على وضعيّة القطاع المصرفي وقيمة النقد وأداء الإدارات الرسميّة.
تقلّص حجم القطاع وتصفية أعماله
في بداية الأزمة، اعترضت أوساط القطاع المصرفي على الحديث عن ضرورة تحجيم القطاع، بعد إعادة هيكلته، بعدما تضخّم حجمه قبل العام 2019 بشكل غير طبيعي، قياسًا بحجم الناتج المحلّي اللبناني. وكما كان واضحًا يومها، كان تضخّم موجودات القطاع مدفوعًا بتنامي حجم الودائع، التي تم توظيف الجزء الأكبر لدى المصرف المركزي، الذي تكبّد خسائر تُقدّر اليوم بنحو 73 مليار دولار. ومن هنا، كان التركيز على أهميّة معالجة هذه الخسائر، وإعادة القطاع إلى حجمه الطبيعي المتناسب مع حجم الاقتصاد المحلّي، وتركيز استعمال السيولة على تسليفات مفيدة للاقتصاد الحقيقي.
بطبيعة الحال، لم تتم إعادة هيكلة القطاع، كما لم تتم معالجة الخسائر. غير أن المفارقة تكمن في أن سنوات الأزمة الأربع شهدت تصفية تدريجيّة في أعمال القطاع، من دون معالجة أزمة المودعين. أي بمعنى آخر، وبعيدًا عن شعارات المصرفيين الذين تمسّكوا في الخطابات الإعلاميّة بما حققه القطاع من نمو قبل الأزمة، كانت المصارف نفسها تقلّص حجمها بشكل تلقائي، وبقرارات صادرة عن إداراتها، لكن من دون عمليّة منظمة تكفل حقوق المودعين. بهذا الشكل، كان واضحًا أن الهدف الأساسي من كل تلك الشعارات لم يكن الحفاظ على حجم القطاع بالفعل، وهو ما استحال تحقيقه بعد حصول الأزمة، بل منع عمليّة إعادة الهيكلة المنظمة من قبل الدولة، واحتفاظ المصارف بمفاتيح إعادة هيكلة القطاع المالي.
مراجعة الأرقام تكفي لمعاينة عمليّة التصفية التلقائيّة التي حصلت خلال السنوات الأربع. فتوظيفات المصارف في سندات اليوروبوند، أي سندات الدين بالعملة الصعبة، لم تعد تتخطّى مستوى 2.41 مليار دولار، بعدما تجاوزت قبل الأزمة حدود 14.85 مليار دولار. وكما هو معلوم، كانت تصفية محفظة سندات اليوروبوند تحصل تدريجيًا عبر بيع هذه السندات في الأسواق العالميّة، وهو ما زاد من حصّة الدائنين الأجانب في الدين العام.
وخلال السنوات الأربع الماضية، صفّت المصارف أكثر من 80% من حجم القروض الممنوحة بالعملات الأجنبيّة، ليقتصر حجمها حالياً على 7.72 مليار دولار. أمّا التسليفات بالليرة اللبنانيّة، فجرى تصفية نصفها، ليقتصر حجمها الآن على 12.12 ألف مليار ليرة لبنانيّة. وفي الوقت نفسه، تراجعت ودائع المصارف لدى المصارف المراسلة لغاية 4.31 مليار دولار، نزولًا من 8.97 مليار دولار قبل الأزمة. بينما انخفضت إلتزاماتها لتلك المصارف لغاية 3.02 مليار دولار، مقارنة بنحو 9.66 مليار دولار أميركي.
وحتّى في ما يتعلّق ببنية عمليّات القطاع التشغيليّة، كانت التصفية سيّدة الموقف. إذ غادر القطاع خلال سنوات الأزمة 9.167 موظّفاً، أي أكثر من 37% من إجمالي موظفي القطاع قبل حصول الأزمة. كما أقفلت المصارف خلال السنوات الأربع 30% من فروعها المنتشرة على الأراضي اللبنانيّة، ليقتصر عدد فروعها اليوم على 737 فرعًا فقط. مع الإشارة إلى أن بعض المناطق اللبنانيّة باتت خالية تمامًا من أي فرع مصرفي، كحال محافظة بعلبك الهرمل مثلًا، التي باتت “صحراء” قاحلة على المستوى المصرفي.
أزمة الودائع والفجوة المصرفيّة
هكذا، طالت التصفية التدريجيّة الغالبيّة الساحقة من موجودات المصارف وعمليّاتها، ما يعكس ضحالة وجوف الشعارات التي تم تردادها في بداية الأزمة، عن ضرورة حماية حجم القطاع المصرفي والمحافظة على المكتسبات التي حققها خلال سنوات ما قبل الأزمة. ما تم حمايته فقط، هو ملكيّة أصحاب المصارف لمؤسساتهم، والتي كان من المفترض شطبها في سياق أي عمليّة إعادة هيكلة منظمة، مقابل إعادة رسملة القطاع بمساهمين جدد.
في مقابل تصفية الموجودات والعمليّات، كان القطاع –لغاية تشرين الثاني الماضي- مازال ينوء تحت وطأة إلتزامات بقيمة 91.28 مليار دولار، للمودعين بالعملات الأجنبيّة. مع الإشارة إلى أنّ حجم هذه الإلتزامات كان يتخطّى حدود 123.6 مليار دولار، غير أن المصارف تمكنت من تصفية أكثر من ربع الودائع بالعملات الأجنبيّة، حين قرّر جزء من المودعين بيع سيولتهم المصرفيّة بموجب شيكات للمقترضين، وبحسومات تخطّى مستواها في بعض المراحل 89%. كما قرّر بعض المودعين –وخصوصًا أصحاب الودائع الصغيرة- سحب أموالهم بالليرة، وبأسعار صرف مجحفة.
مقابل الإلتزامات المتبقية للمودعين، ما زال مصرف لبنان مدينًا بنحو 83.77 مليار دولار للمصارف التجاريّة. بمعنى آخر، ما زالت قيمة إلتزامات المصرف المركزي للمصارف توازي 92% من حجم الودائع المودعة في القطاع المصرفي، وهو ما يمثّل المشكلة الأساسيّة التي تحول دون استعادة الانتظام في القطاع المالي. ومن المعروف أن حجم السيولة الجاهزة للاستعمال بحوزة مصرف لبنان، والتي تمثّل آخر ما تبقى من أموال المودعين التي وظفتها المصارف لدى المصرف المركزي، لا يتخطّى اليوم حدود 9.37 مليار دولار. هنا بالتحديد، تكمن “فجوة الخسائر” التي يتم الحديث عنها، والتي يفترض أن تُعالجها خطّة إعادة هيكلة متكاملة.
في نتيجة الأزمة، أعادت المصارف هندسة حساباتها وميزانيّاتها، وصفّت ما تريد تصفيته من تسليفات وتوظيفات وودائع، وتركت أزمة المودعين على حالها من دون أي حل هيكلي أو جذري. وبالتوازي مع العمليّات الماليّة، كانت لوبي المصارف ينجح –طوال السنوات الأربع الماضية- في الإطاحة بأي حل أو مشروع قانون أو خطّة، للقيام بإعادة هيكلة المنظمة والشاملة، التي يفترض أن تعالج أزمة تعثّر القطاع المالي. هذه النتيجة هي ما تؤكّده تقارير جمعيّة المصارف نفسها، قبل أن يؤكّده أي محلّل أو باحث آخر.