بين الرياض والجزائر، ثبَّتَ حاكم مصرف لبنان بالإنابة وسيم منصوري حقيقة وجود غطاء مصرفي عربي داعم له. فالرجل يحصد عبارات التأييد والرسائل الإيجابية من حكّام المصارف العربية والمصرفيين العرب، ويحجز للبنان مساحة نقاش في المؤتمرات المصرفية غير المخصصة لبحث الشأن اللبناني بشكل حصري.
فعلى بُعد نحو أسبوعين من مؤتمر “الآفاق الاقتصادية العربية في ظل المتغيرات الدولية”، الذي نظّمه اتحاد المصارف العربية، في الرياض، حَضَرَ منصوري يوم أمس اجتماعات الدورة السابعة والأربعين لمجلس محافظي المصارف المركزية العربية والمؤسسات النقدية العربية، التي اقيمت في الجزائر العاصمة. وحسب الأمين العام لاتحاد المصارف العربية وسام فتّوح، لقي منصوري “اهتماماً خاصاً من محافظي المصارف المركزية العربية، الذين تواصلوا معه بشكل مباشِر، ووجَّه منصوري لهم دعوات لزيارة لبنان، ورحَّبَ المحافظون بالدعوات”.
فهل يكون ذلك فاتحة لعودة المؤتمرات المصرفية إلى بيروت، على أن السؤال الأهَم يبقى حول قدرتها على إحداث تغيير في الواقع الحالي. ومع أن المحافظين يقدّمون رسائل إيجابية، تبرز على الضفة الأخرى احتمالات الحصول على مساعدة بريطانية. لكن يبقى الأمر مرهوناً بالقرار السياسي اللبناني.
التحضير لمؤتمر مصرفي عربي في لبنان
لعقود، شكّلت المؤتمرات المصرفية التي عقدت في لبنان، مناسبات للتأكيد على متانة القطاع المصرفي ونجاح السياسات النقدية التي أرساها الحاكم السابق لمصرف لبنان رياض سلامة. وبعد 4 سنوات من الغرق المتواصل في الأزمة وانكشاف عقم السياسات النقدية وهشاشة القطاع المصرفي الذي كان متضخّماً من الخارج وأجوف من الداخل، تعود المؤتمرات لتلعب دورها السابق، أي التدليل على الإيجابيات.
الفارق بين المؤتمرات المعهودة وتلك التي يتم التحضير لها، أن المنتَظَرة أكثر واقعية من سابقاتها، فيؤكّد فتّوح في حديث لـ”المدن”، أن اتحاد المصارف العربية يلعب دوراً في “التحضير لمؤتمر مصرفي عربي في لبنان. وسيكون المؤتمر خطوة إضافية تشير إلى الثقة المصرفية العربية بالقيادة الجديدة لمصرف لبنان”. ومع ذلك، يبقى فتّوح حَذِراً بالإيجابية المفرطة، فيشير إلى أنه “لا يجب تضخيم التفاؤل حالياً. لكن من المهم التأكيد على أن الجليد كُسِر تجاه لبنان، والمطلوب اليوم إصلاحات لبنانية في المقابل، ومن هنا تبدأ عملية استعادة الثقة، وهذا هو الهدف الرئيسي”. وعملية كسر الجليد العربي حيال لبنان، ستُتَوَّج أيضاً “بدعوة منصوري إلى مؤتمر لاتحاد المصارف، سيُقام في قطر، في شهر تشرين الأول المقبل، وسيكون على غرار مؤتمر الرياض”.
الخطوة العربية قابلها تأكيد من منصوري بالالتزام بمقررات المؤتمرات المصرفية، وخصوصاً المتعلّقة بقضايا التشريعات والقواعد المصرفية الدولية الجديدة، وعلى رأسها قضايا الامتثال، وكيفية تطبيقها من قبل المصارف العربية. وفي السياق، رأى فتّوح أن لا مجال أمام المصرف المركزي إلاّ الالتزام بالتشريعات والقواعد، رغم وجود التحديات التي يفرضها تحوُّل الاقتصاد اللبناني إلى اقتصاد نقدي بنسبة تصل إلى 95 بالمئة “وهذا يشكِّل تحدياً كبيراً أمام منصوري في إيجاد العلاج وتحويل الاقتصاد النقدي باتجاه العمليات المصرفية”. ويلفت فتّوح النظر إلى أن دعوته لتنشيط العمليات المصرفية “لا تعني الدفاع عن أصحاب المصارف، بل الحفاظ على المصارف كمؤسسات وكوضع قانوني وكخدمات مصرفية للتواصل مع الداخل والخارج”.
مساعدة بريطانية تقرِّرها التسوية
المؤتمرات ليست هدفاً بحدّ ذاتها. وتتراجع قيمتها وقدرتها على التأثير طالما أن الطبقة السياسية في لبنان لم تضع خطة إصلاحية فعلية. وتتراجع المؤشّرات الإيجابية مع تراجع احتمالات التوصُّل إلى اتفاق نهائي مع صندوق النقد الدولي. ولذلك يربط الاقتصادي روي بدارو، إنتاج حلّ اقتصادي بوجود حلّ سياسي، وهذا الأمر لا يتم إلاّ “بتسوية يسير فيها العامل السياسي والعامل الاقتصادي على سكّة واحدة، ويُترجمها فريق عمل في مصرف لبنان ترتاح له الدول العربية. وبعدها، تأتي المصارف العربية إلى لبنان، فهذه المصارف لا تتحرّك بلا موافقة القيادات السياسية العربية”.
ووفق ما يقوله بدارو لـ”المدن”، عند إنضاج التسوية، “يأتي دور المؤتمرات كنوع من التكريس والتتويج للتسوية، وكإعلان رسمي لها، وليس على شاكلة المؤتمرات التي كانت تحصل سابقاً في بيروت، والتي كانت عبارة عن دعاية لرياض سلامة وللمصارف التي ما زالت اليوم في حالة نكران عميق لمسؤوليتها عن الأزمة”.
توصيف ما يحصل من قِبَل ثلاثي المصارف ومصرف لبنان والطبقة السياسية بـ”النكران”، يعود لتكامل الدور بين هذا الثلاثي. فالسياسيون لا يشرّعون بما يتوافق مع الإصلاح، ومصرف لبنان يسير بالسياسة النقدية نفسها، والمصارف أيّدت وسارت بعملية اللولرة التي انتهجها مصرف لبنان “ظناً منهم أنه يمكن تمريرالعملية بسلاسة، ولم يحصل ذلك. وبالتالي ستأتي ساعة الحقيقة وحينها سيتم الاعتراف بأن جزءاً كبيراً من أموال المودعين اختفت بين سلامة والدولة والمصارف وأن المحاسبة يجب أن تشمل هذا الثلاثي، ومَن لا يمتثل من المصارف للمحاسبة، فليُقفِل بابه وليُحاسَب على أمواله، حتى تلك التي أخرجت من لبنان في السنوات الـ15 الأخيرة، لأن تلك الأموال هي جوهر الأزمة، والتي تريد المصارف حمايتها في الخارج، لكن يجب كشف تلك الأموال، وذلك لا يتم إلاّ بقرار دولي”.
وفي حال وجود قرار داخلي بالانتقال من الواقع الراهن إلى مرحلة متقدّمة بإصلاحات صحيحة، فيستدعي ذلك “إعادة القبول بالمساعدة البريطانية التي طرحناها على سلامة ورَفَضَها”، يقول بدارو. وتتلخّص المساعدة بـ”إعطاء المصرف المركزي البريطاني الأصول والقواعد التي يسير عليها، ومنها سرعة وشفافية عرض أرقام المركزي ليتم تغيير أي مسار نقدي يمكن أن يكون غير صحيح. وهذا على عكس ما يحصل في لبنان، حيث يتم التأخّر في إعلان الأرقام لأشهر، ناهيك عن غياب الشفافية حول الأرقام المعلنة. لكن السؤال الأبرز، هو هل يمتلك منصوري الوقت لتطبيق ذلك النظام، أم أنه اليوم يحضِّر الأرضية للحاكم المقبل؟ خصوصاً وأن هذه النقلة التي قد تحصل في المصرف المركزي، تحتاج إلى ما بين سنة وسنة ونصف، وتحتاج إلى فريق عمل”.
وبهذه الإصلاحات والمساعدات، يمكن للبنان الامتثال والتقيُّد بالتشريعات والقواعد المصرفية “الذي هو في الأصل مطلب صندوق النقد”.