ثلاث شخصيات برزت خلال الخمسين سنة الماضية؛ لا يمكن فهم العالم الرقمي الحديث إلا من خلالها: بيل غيتس، ستيف جوبز، وإيلون ماسك. لا يجمعهم مشروع واحد، بل يجمعهم أثر عميق شكّل وعي البشرية التكنولوجي. المقال رحلة عبر ثلاث رؤى متباينة: العقل المنهجي، القلب، والحلم الذي يتخطى الزمان والمكان.
العقود الخمسة الماضية شهدت تحولا جذريا في دلالات مفردة “تكنولوجيا” التي لم تعد تقتصر على الإشارة إلى التطور التقني، بل حملت دلالات جديدة تشير إلى فلسفة حياة، وواقع يعكس طموحاتنا ومخاوفنا.
في قلب هذا التحول، وقف ثلاثة رجال، كلٌ منهم يحمل رؤية مختلفة، لكن ثلاثتهم ساهموا في إعادة تعريف ما تعنيه “الحداثة الرقمية”: بيل غيتس، ستيف جوبز، وإيلون ماسك.
غيتس بنى الأساس. جوبز منح التكنولوجيا روحًا جديدة. وماسك دفع حدودها نحو المستقبل. ما أنجز لم يكن مجرد منتجات تباع في الأسواق، بل عوالم تقنية تُروى عبر أنظمة تشغيل، واجهات استخدام، وصواريخ تتحدى الجاذبية. وبينما يتجادل العالم حول من هو الأعظم، فإن السؤال الأهم هو: كيف تداخلت رؤاهم لتصنع عالمنا الرقمي المعاصر؟
البداية، بالنسبة لي، كانت مع جهاز ماكنتوش كلاسيك، في لندن، في خريف عام 1990، أزاحت شركة Apple الستار عن الجهاز لتكتب قصة الحوسبة الشخصية بلغة أبسط وأقرب إلى الناس. لم يكن الجهاز ثوريًا من حيث القوة، لكنه حمل وعدًا جديدًا: أن يصبح الكومبيوتر متاحًا للجميع، بسعر يقل عن ألف دولار لأول مرة.
جاء التصميم مألوفًا، بصندوق بيج صغير يحمل شاشة أحادية اللون بحجم 9 إنش، يعلوها شعار التفاحة المقضومة، وكأن الزمن توقف عند لحظة ولادة الماكنتوش الأول عام 1984. ورغم تواضع المواصفات، معالج Motorola 68000 بسرعة 7.8 ميغاهرتز، وذاكرة RAM بسعة 1 ميغابايت قابلة للتوسعة، وقرص مرن 3.5 إنش، مع خيار لإضافة قرص صلب داخلي، كان الجهاز بمثابة بوابة دخول إلى واجهة رسومية أنيقة، ونظام تشغيل مدمج، يفتح النوافذ ويغلقها بنقرة واحدة، ويجعل الحوسبة تبدو وكأنها لعبة ذكية.
لأول مرة ينجح العالم في تقديم آلة لا تنفذ الأوامر فقط، بل تتواصل. ومنذ ذلك الحين، لم أعد أرى التكنولوجيا كأدوات، بل كأفكار.
الاستثناء النادر
ستيف جوبز: أفضل ما يمكن أن يوصف به جوبز هو الاستثناء النادر. رجلٌ لا يبحث عن السرعة أو القوة، بل عن الدهشة. لم يكن مهندسًا تقنيًا بالمعنى التقليدي، بل فنانًا رقميًا يرى في كل جهاز فرصة للتعبير. حين أطلق أول جهاز ماكنتوش، لم يكن يسعى لتقديم حاسوب، بل سعى وراء تجربة شعورية أسست للقاء الأول بين الإنسان والآلة ممهدا بذلك الطريق للثورة الرقمية التي نعيشها اليوم.
والد ستيف جوبز البيولوجي، عبد الفتاح الجندلي، مهاجر سوري من مدينة حمص. وُلد في سوريا عام 1931، وسافر إلى الولايات المتحدة للدراسة، حيث التحق بجامعة ويسكونسن. وهناك التقى جوان شيبل، وهي أميركية من أصول سويسرية وألمانية، وكانت والدة ستيف جوبز البيولوجية.
عندما وُلد ستيف عام 1955، لم يكن والداه البيولوجيان متزوجين، فتم تبنّيه من قبل الزوجين بول وكلارا جوبز، وهما من أصول أميركية، ونشأ في كوبرتينو، كاليفورنيا.
هذا التوزع بين الأصل والمهجر، وإن لم يتحدث عنه مباشرة، هو ما ساهم في تشكيل شخصيته الباحثة عن الجوهر، لا القشور. كان يؤمن أن التصميم ليس كيف يبدو الشيء، بل كيف يُشعرنا. لذلك، حين أمسكنا بجهاز الآيفون، لم نكن نستخدم هاتفًا، بل نختبر فلسفة كاملة: البساطة، الانسيابية، والحدس.
رغم إبعاده عن الشركة التي أسسها، عاد ثانية إليها لينقذها من حافة الإفلاس، ويقودها نحو ثورة غيرت شكل الحياة اليومية. لم يكن جوبز يسعى للهيمنة، بل للتأثير. أراد أن يجعل التكنولوجيا أقرب إلى الإنسان، ما كان رهابا تكنولوجيا تحول إلى لعبة بيد الأطفال. وكان يحقق النجاح في كل خطوة. كل منتج من منتجاته حمل بصمته: من طريقة فتح الجهاز، إلى صوت الإشعارات، إلى انحناءة الزوايا.
ولكن للقدر أحكامه، في 5 تشرين الأول – أكتوبر 2011 رحل ستيف جوبز بعد صراع مرير مع السرطان، قبل أن يتاح له الوقت للكشف عن جميع أحلامه.
في مقارنة الثلاثي، يبقى جوبز هو الوجه الإنساني للتكنولوجيا.. إن كان غيتس هو من بنى الأساس، وماسك من وسّع الحدود، فإن جوبز هو من منح الآلة روحًا. ولهذا، فإن علاقته بالمستخدم ليست علاقة منتِج بمستهلك، بل علاقة مُبدع بجمهور يشعر أنه جزء من الحكاية.
“السبيل الوحيد للعمل العظيم أن تحب ما تفعل؛ إن لم تجده بعد فاستمر في البحث.” هذه هي فلسفة جوبز الذي استمر في البحث عنها حتى آخر لحظة من حياته.
القديس المتواضع
بطلنا الثاني هو بيل غيتس: القديس المتواضع. لم يكن غيتس يبحث عن الأضواء، بل عن البنية. لم يكن يسعى للدهشة، بل للتمكين. حين أسّس مايكروسوفت عام 1975، لم يكن يحلم بحاسوب شخصي، بل بحوسبة تُتاح للجميع، تُصبح جزءًا من الحياة اليومية، تُعلّم وتُنتج وتُربّي.
غيتس لم يكن شاعرًا رقميًا كجوبز، ولا مغامرًا مستقبليًا كماسك، بل كان مهندسًا للمنطق، إن صحت الاستعارة، يرى في البرمجيات لغةً عالمية، وفي الأنظمة بيئةً للتفكير والعمل. نظام ويندوز لم يكن واجهة تشغيل، بل منصة تعليمية، اقتصادية، إدارية، غيّرت شكل المؤسسات والمدارس والمنازل.
ما يجعل غيتس “قديسًا متواضعًا” ليس فقط ما بناه، بل كيف تعامل مع ما بناه. حين ترك إدارة مايكروسوفت، لم يغادرها ليعتزل، بل لينتقل إلى العمل الخيري، حاملاً معه نفس المنهجية: تحليل، تخطيط، تنفيذ. أسّس مؤسسة Gates، ووجّه ثروته نحو الصحة والتعليم ومكافحة الفقر.
من أقواله التي تستحق أن نتذكرها دائما: “لا بأس بالاحتفال بالنجاح لكن الأهم تعلم دروس الفشل.”
في مقارنة الثلاثي، يبقى غيتس الركيزة الصامتة التي وقف عليها الجميع. إن كان جوبز هو من جعل الآلة تُشعرنا، وماسك من جعلها تحلم، فإن غيتس هو من جعلها تعمل، وتُنتج، وتُفيد. تأثيره لا يُقاس بالجدل الذي أثير حوله، بل بالاستمرارية، بالعدد الهائل من الناس الذين يستخدمون أدواته دون أن يشعروا بذلك، لأنها أصبحت جزءًا من نسيج حياتهم.
شاغل الناس
إيلون ماسك: الرجل الذي لا يُشبهه أحد.. هل هو رائد أعمال؟ هل هو مخترع؟ لا.. إنه ظاهرة متكاملة ما فتأت تملأ الدنيا وتُشغل الناس، كل يوم، كل ساعة، وكل تغريدة. اسمه لا يرتبط بشركة واحدة، بل بمنظومة من مشاريع تتقاطع مع مستقبل البشرية: من السيارات الذكية إلى استعمار المريخ، من الذكاء الاصطناعي إلى الدماغ الصناعي، من الدفع الرقمي إلى إعادة تعريف وسائل التواصل.
ماسك لا يظهر عبقريته داخل المختبرات، بل على خشبة المسرح. كل مشروع جديد هو عرضٌ مسرحيٌ للتكنولوجيا، وكل مؤتمر صحفي هو مشهدٌ من سيناريو مستقبلي. حين يكشف عن سيارة جديدة، أو صاروخ قابل لإعادة الاستخدام، أو رقاقة تُزرع في الدماغ، لا يكتفي بالشرح، بل يُؤدي. الابتكار عنده ليس نتيجة، بل حدثٌ يجب أن يُشاهَد ويُناقش ويُصدّق أو يُكذّب.
لكن، خلف هذا الاستعراض، هناك رؤية تتجاوز اللحظة. ماسك لا يعمل على تحسين الحاضر، بل على تسريع الوصول إلى المستقبل. يرى في كل مشكلة فرصة، وفي كل خيال مشروعًا. لا يخشى أن يُقال عنه متهور، لأنه يؤمن أن التردد هو العدو الحقيقي للتقدم. مشروعه في استعمار المريخ ليس مجرد طموح فضائي، بل إعادة تعريف لمكان الإنسان في الكون. ومشروعه في نيورالينك ليس مجرد تجربة عصبية، بل محاولة لفهم حدود الإدراك البشري وتجاوزها.
وفي هذا السياق، يصبح ماسك “شاغل الناس” بحق، لأنه لا يترك لهم خيارًا بين الاهتمام أو التجاهل. حضوره يُجبر العالم على التفاعل، على الترقب، على إعادة التفكير في ما هو ممكن وما هو مستحيل.
قبل ثلاثة أعوام تقريبا، كتبت عن إيلون تحت عنوان “ماسك: مالئ الدنيا وشاغل الناس”، حينها قفز إلى ذهني المتنبي وأنا أقرأ خبرًا عن براءة نظام السائق الآلي في تسلا من مسؤولية التسبب بحادث مروري. طالما رأيت في ماسك روحا لا تهدأ، ورجلٍ لا يستقر على حال، ولا يكفّ عن مفاجأة العالم. واليوم، وبعد كل ما أضافه من مشاريع وأفكار وجدل، أجد أن العنوان لم يكن مجازًا، بل وصفًا دقيقًا لظاهرة لا تزال تملأ الدنيا وتشغل الناس، كل يوم، وكل لحظة.
في قلب التحول وقف ثلاثة كلٌ منهم يحمل رؤية مختلفة لكن ثلاثتهم ساهموا في إعادة تعريف ما تعنيه الحداثة الرقمية
الأقوال المنقولة عن ماسك تعكس فلسفته في الابتكار والمجازفة، ومنها قوله: “الفشل خيارٌ مطروح هنا. إذا لم تكن الأمور تفشل، فأنت لا تبتكر بما يكفي.” وأيضًا: “تأسيس شركة وتنميتها لا يتعلق فقط بالمنتج الذي يُباع، بل بالإبداع والدافع والإصرار لدى الأشخاص الذين يقفون خلفها.” ولكن هذا لن يتحقق إن لم “تبذل 80 إلى 100 ساعة عمل أسبوعيا لتحسن فرص النجاح.”
في تغريداته الأخيرة على منصة X روّج ماسك لتحديثات “غروك”، تحديدا النموذج الذي يحوّل الصور إلى فيديو، قائلاً: “غروك يتحسّن بوتيرة أسرع من أي ذكاء اصطناعي آخر.” كما شارك مقاطع فيديو لروبوت “أوبتيموس” ضمن عرض لفيلم يدمج الخيال العلمي بالواقع المتسارع الذي يصنعه بنفسه.
في مقارنة الثلاثي، يبقى ماسك هو الحالم الذي يوسّع الحدود. يجبر العالم على إعادة التفكير في تعريف ما هو ممكن، ويقود مشاريع تتجاوز الأرض، مثل استعمار المريخ، حيث قال: “علينا أن نركّز بدقة ليصبح البشر حضارة متعددة الكواكب.”
ثلاث رؤى.. عالم واحد
لا يمكن فهم العالم الرقمي الذي يتسارع بلا هوادة، دون العودة إلى ثلاث شخصيات شكّلت بنيته، لغته، وخياله: بيل غيتس، ستيف جوبز، وإيلون ماسك. كلٌ منهم لم يكتفِ بأن يكون مبتكرًا، بل أصبح رمزًا لرؤية مختلفة: غيتس هو المعماري الذي بنى الأساس، جوبز هو الفنان الذي منح الآلة روحًا، وماسك هو الحالم الذي وسّع حدود الممكن.
ربما، في زمننا هذا، لم يعد يكفي أن نكون مبرمجين أو مصممين أو رواد أعمال. نحن بحاجة إلى أن نكون ورثة الثلاثة: أن نُبدع كما جوبز، أن نُخطط كما غيتس، وأن نحلم كما ماسك.
في النهاية، لا يتعلق الأمر بمن هو الأعظم، بل بكيفية تداخل رؤاهم لتصنع عالمًا واحدًا، متعدد الطبقات، متعدد اللغات، متعدد الاحتمالات. عالمٌ نعيش فيه اليوم، ونحاول أن نفهمه، ونُعيد تشكيله، كما فعلوا هم… كلٌ بطريقته.



