يكتنف الغموض مصير التقرير الذي أعدته شركة «ألفاريز أند مارسال» المكلّفة بإجراء التدقيق الجنائي في حسابات مصرف لبنان، والذي تسلّمه وزير المال يوسف الخليل ويتحفّظ عن نشره أو اطلاع الحكومة عليه، ما اعتبر مراقبون أنه يتعارض مع مصلحة الدولة اللبنانية ويشكل التفافاً على حقّ اللبنانيين بالوصول إلى المعلومات المتعلّقة بهدر وسرقة مليارات الدولارات من الخزينة العامة.
إلا أن مصدرا وزاريا أكد لـ«الشرق الأوسط»، أن وزير المال «لم يتسلّم التقرير النهائي بل مسودة عنه». وأوضح أن «الاتفاق الموقّع بين شركة التدقيق ووزارة المال، يلزم الشركة بتقديم تقرير أولي لوزير المال، وأن الأخير لديه مهلة 15 يوماً للاطلاع على المسودة ووضع ملاحظاته عليها، لتصدر بعدها الشركة تقريرها النهائي». وأكد المصدر أن الوزير «ليس متحفّظاً عن التقرير وليس ملزماً بعرضه على مجلس الوزراء قبل أن يصبح ناجزاً ونهائياً».
ووقعت وزارة المال اللبنانية اتفاقاً مع «ألفاريز أند مارسال» في منتصف أيلول 2020، كلّفت بموجبه الشركة المذكورة بـ«إجراء التدقيق في حسابات وكشوفات مصرف لبنان لتبيان أسباب الفجوة المالية المقدرة بـ72 مليار دولار، وتحديد المسؤولين عنها، والتي يعزوها البعض إلى الفساد الذي طال إدارات حسابات الدولة، على أن يبدأ التدقيق بالبنك المركزي وينسحب على كل الوزارات والإدارات الرسمية».
وبالعودة إلى شروط العقد الموقع بين الدولة اللبنانية والشركة المذكورة، يتضّح أن المآخذ على وزير المال سياسية أكثر مما هي قانونية؛ إذ اعتبر الخبير المالي والاقتصادي الدكتور محمود جباعي أن «ما يحصل لجهة اطلاع وزير المال على مسودة التقرير أمر طبيعي وقانوني». وأوضح في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «الدولة اللبنانية وقّعت اتفاقاً مع شركة (ألفاريز) والتزمت بشروط الشركة التي تعتمدها الأخيرة مع كلّ الدول من أجل حماية حقوقها وعدم الوقوع بأي خطأ يرتدّ عليها».
وأكد أن «التقرير النهائي تنشره الشركة المكلّفة بإجراء التدقيق الجنائي وليس وزارة المال، وهذه الشروط وافقت عليها الأطراف السياسية التي طالبت بالتدقيق الجنائي بما فيها التيار الوطني الحرّ، وهي تنص على أنه يحقّ لوزير المال الاطلاع على مسودة التقرير وإبداء رأيه بشأنها ووضع ملاحظاته حولها، لكنّ يمنع عليه التصريح بأي شيء يتعلّق بنتائج التدقيق».
وذكّر جباعي بأن «قانون التدقيق الجنائي الذي أقره المجلس النيابي يبدأ بحسابات مصرف لبنان، ويجب أن يشمل كافة الوزارات والإدارات». وقال: «ننتظر من التدقيق الجنائي أن يفصل بين سوء الإدارة وسوء الأمانة، وأن يحدد الخسائر الناجمة عن سوء الإدارة، والهدر والفساد والسرقة التي يجب أن تنتج عنها محاسبة قضائية، لنكون أمام حقيقة واقعية».
وتختلف المقاربات حول الخسائر التي لحقت بميزانية الدولة اللبنانية والمقدرة بعشرات مليارات الدولارات على مدى العقود الماضية، ودعا جباعي لأن «يشمل التدقيق كل الوزارات، وكشف حقيقة الأرقام التي استدانتها الحكومات المتعاقبة من البنك المركزي والمقدرة بأكثر من 70 مليار دولار والتي تعود للمودعين». كما شدد الخبير المالي والاقتصادي على «ضرورة كشف مصير 27 مليار دولار لم تتوضح بعد كيفية صرفها، والتي حددها ديوان المحاسبة خلال عملية التدقيق بقطع حساب موازنة عام 2018».
ورد المعاون السياسي لرئيس المجلس النيابي نبيه بري النائب علي حسن خليل، على الاتهامات التي وجهها رئيس الجمهورية السابق ميشال عون لبري ووزراء المال المحسوبين عليه بأنهم لم يكونوا يريدون السير بالتدقيق الجنائي. وقال في حديث تلفزيوني: «غير صحيح أننا كنا ضد التدقيق الجنائي، إنما قمنا بكل التسهيلات ورفعنا السرية عن حاكم مصرف لبنان، فلماذا لم يتابع الرئيس عون الموضوع في السنتين الأخيرتين من عهده؟»، داعياً «لنشر تقرير التدقيق الجنائي وفق الأصول، وإحالته على مجلس الوزراء في الغد»، مؤكداً أن بري مع هذه الدعوة، «ونحن مع توسيع التدقيق الجنائي ليشمل كل الإدارات والوزارات».
من جهته، رأى رئيس مؤسسة «جوستيسيا» الحقوقية المحامي بول مرقص، أنه «كان بإمكان وزير المال أن يتفادى الانتقادات التي يواجهها الآن، لو أنه صارح الرأي العام بتسلّمه النسخة الأولية من التقرير قبل أن يتضح أمرها». وتمنّى في تصريح لـ«الشرق الأوسط» لو أن الوزير الخليل «أعلن للملأ أن التقرير المبدئي بات بحوزته ويقول للبنانيين إن العقد الموقع مع شركة (ألفاريز) يرتدي طابع السرية، وأنه ملتزم بالشروط السرية، وحينها لن يكون بمقدور أحد أن يلومه انطلاقاً من اعتماده مبدأ الشفافية، ولكان تفادى كلّ الإشكالات القائمة حالياً».
ورغم اعترافه بتضمّن العقد شروطاً نموذجية تحفّظ مرقص عن شروط أخرى، واعتبر أنه «كان بالإمكان التفاوض حول العقد آنذاك على نحو أفضل مما هو عليه الآن».