حين نعبر الأوتوستراد الساحلي، بين منطقتي الكرنتينا والصيفي، تعوم صور الموت والدمار وتتقدم مجدداً في البال والقلب. نتمهل قليلاً، نقرأ في الشعارات، ننظر صوب ما تبقى من أهراءات، ننظر صوب ما تبقى من أحواض تنبض بمستوعبات، ننظر الى الشاحنات التي تصطفّ قوافل، فنتذكر أن الحياة يفترض، في الآخر، أن تعود. لكن، هل حياة مرفأ بيروت عادت مجدية؟ نسمع كلاماً كثيراً عن أخطاء و»سعدنات» وتهريب ما زال يسري في الأرجاء. فهل نصدق «على العمياني» أم علينا أن نقتحم سور المرفأ ونبحث في تفاصيل التفاصيل؟
«بور بيروت» أشبه باللغز. مليء، من زمان وزمان، بالأسرار والغموض. وأتت تفجيرات المرفأ لتزيد الطين بَلّة. لكن، بعيداً عن بركان الدم فيه هناك قصص تهريب طالما ترامت في أنحائه. فماذا عن حاله اليوم؟ رئيس لجنة الأشغال العامة والنقل النيابية النائب سجيع عطيه «فجّر» خبراً جديداً من قلب المرفأ: هناك 400 مستوعب تخرج يومياً من المرفأ من دون رقابة. وتحدث عن خط أخضر. فهل علينا ان نخاف بالفعل؟ «نبت الشعر على لسانه» وهو يقول، منذ أصبح رئيسا للجنة الأشغال والنقل: «بدنا مخطط توجيهي جديد للمرفأ» لكن على من تقرأ مزاميرك يا داوود في بلد مثل لبنان؟
لا أحد يشك لحظة بأن الوضع سيئ، لكن، فلنسأل: هل هو أسوأ من قبل؟
في موازاة تردد كثير من الأسماء في المرفأ هناك اليوم اسم هيثم إبراهيم- لكن بشكلٍ إيجابي- فهو يشغل رئاسة مصلحة مرفأ بيروت بالإنابة، و»يعمل من الفجر الى آخر الليل باللحم الحيّ من أجل ترميم الثغرات الكثيرة» على حدّ ما يُقال هناك «فالبور هو الوحيد اليوم الذي يشتغل بشكلٍ صحيح».
نعود الى سجيع عطيه لنسأله: هل صحيح أن مرفأ بيروت هو الوحيد بين المداخل الحدودية الذي يعمل صحّ؟ وهل تأخذ اللجنة حال مرفأ طرابلس في الحسبان؟ أجاب: «لا يجب أن نجري «comparison» (مقارنة) بين غلطين. أنا إيجابي ولست شعبوياً وغير محمي وحزين لرؤية الناس تشحذ الخبز والطحين والدواء. السيستام راكب كله غلط. الجمرك يكشف نظرياً – أو قد يكشف – عن مستوعبين، أحدهما كريستال والثاني تبن، ويضع نفس القيمة لهما. القيَم التي تحدد، بسبب إنخفاض عدد الكشافين، غير حقيقية وغير صحيحة. وبالتالي إذا كان الكشافون ملائكة فعددهم – 15 أو 16 كشافاً- لا يسمح لهم بالكشف على 600 مستوعب. الكشاف بالكاد ينظر في مستوعبين أو ثلاثة يومياً».
لا يختلف اثنان على سوء وضع كل المؤسسات في دولة متخاذلة، شبه ميتة، لكن، فلندخل المرفأ – الصومعة، الذي يتكل عليه ما تبقى من سلطة لبنانية، والعيون عليه عشرة عشرة. فماذا عن كل ما يقال؟ مصدر جمركي يتحدث من الألف الى الياء عن أحوال مرفأ يحاول ان يقوم من الموت «فإيرادات البور كانت في أحد عشر شهراً من العام 2022: 1800 مليارليرة. أما الإيرادات في خمسين يوماً (في شهر كانون الأول 2022 وأول 11 يوماً من 2023) فقد بلغت 2900 مليار ليرة. «قدّ سنة». حصل ذلك طبعاً بعد رفع الدولار الجمركي. مرفأ بيروت إذاً استجاب لطموحات «الدولة»، ما أعاد النظر إليه كقوة مالية يفترض إما تقاسمها مع ما يحمل كل ذلك من تجاذب و»جعدنة».
خمسة أجهزة في المرفأ
والسؤال، هل هناك بالفعل تهريب كبير كبير في المرفأ اليوم؟
من «يُقوّص» على بور بيروت اليوم وكأنه يطلق رصاصة الرحمة على ما تبقى من إيرادات تدخل خزينة الدولة. والسبب، برأي مصدر جمركي، هو نية تسليمه الى القطاع الخاص وإلغاء كل العالم الذين يعملون هناك «وبذلك تحسب البيانات في الخارج وتصدر التصاريح «برا» ويدفع كل كونتينر خمسين دولاراً طازجاً عن معاملته تذهب الى الخارج. غريب عجيب أمرهم. غريب أمر السياسيين في بلادنا. وحين نقول ذلك لا نقصد سجيع عطيه، الرجل الذي يريد أن يكون حازماً في مواجهة مسألة التهريب بل من يفكرون أبعد من ذلك، من خلال الإستفادة من آخر مرفق حيّ». سجيع عطيه آدمي مثل كثيرين ممن يريدون الخير لبلدهم لكن هناك من يستغل ذلك لتحقيق مأرب ومآرب.
ليس الجمرك هو وحده من يكشف على السلع المستوردة عبر مرفأ بيروت، بل هناك أربعة أجهزة أخرى تفعل ذلك. هناك جهاز أمن المرفأ ومخابرات الجيش وأمن الدولة والمعلومات. خمسة أجهزة موجودة في المرفأ فهل كلها تشارك في التهريب والتغاضي؟
يحكى عن خط أخضر في المرفأ يحصل التهريب من خلاله. فهل ذلك صحيح؟ في جمارك بيروت يتحدثون عن ثلاثة خطوط: أصفر وأحمر وأخضر. تدقق المعلومات عبر الخط الاصفر من خلال المستندات المقدمة، ونسبة المعاملات التي تقتصر عليه لا تزيد عن 15 في المئة، وهناك الخط الاحمر الذي يذهب فيه موظف لاستطلاع صحة البيانات ونسبة المعاملات من خلاله تناهز الستين في المئة، أما الخط الأخضر فهو الذي لا يتم الكشف الجمركي عليه ونسبة المعاملات عليه لا تزيد عن عشرين في المئة. في الموازاة، جهاز أمن المرفأ يكشف على كل الكونتينرات. وبالتالي، إذا كان هناك تهريب جمركي فلا يتعدى بحسب الجمارك نسبة 10 في المئة. مع العلم أن التهريب في أوروبا يصل الى 25 في المئة. هذا لا يعني طبعا أن نقول: التهريب مسموح لكن الكلام الذي يصدر عن تهريب جمركي في مرفأ بيروت مبالغ به برأي جمارك لبنان.
المشكلة في مرفأ بيروت هي التأخير الحاصل في إنجاز المعاملات. وكل كونتينر يتأخر على ارض المرفأ يدفع بين ستين الى سبعين دولاراً. عدد العناصر الجمركية قليل لكن تتخذ حالياً إجراءات كي لا تتجاوز مدة التأخير الثلاثة أيام والسبب يحدث جراء التأخير الذي تقوم به الوزارات الأخرى التي تتعامل مع شركات الشحن. وبإزاء ذلك يصار الى إعطاء موافقات إستثنائية من الجمرك لتسيير العمل ريثما تصدر البيانات من الوزارات المعنية. مشكلة التهريب إذاً ليست في مرفأ بيروت بل في مرفأ طرابلس والمعابر الحدودية. هناك، لا محاسبة حقيقية تجري. وحتى جهاز الأمن هناك وجهاز المخابرات لا يعملان بالطريقة نفسها التي ينتهجانها في مرفأ بيروت «إنهما يعتمدان أسلوبين مختلفين». هناك يكشفان أمنياً عما إذا كانت هناك أسلحة او مخدرات أما في مرفأ بيروت فإذا وجدا دولاباً إضافياً فنحن أمام مشكلة. لذلك نسمع في جمارك مرفأ بيروت عبارات من نوع «فليقوّصوا في الإتجاه الصحيح حيث يجب أن لا يحدث تراخٍ ولا توجد دولة، وفي كل مرة نتحدث فيها عن مرفأ طرابلس يعملون على تغيير الموضوع».
بالموجود جود
عدد العناصر الجمركية العاملة في مرفأ بيروت لا يتعدى 18 عنصراً، يكشفون على 200 كونتينر يومياً، بمعدل 11 مستوعباً لكل عنصر. ومنذ العام 2019 أوقفت عملية التوظيف حتى العام الماضي، حيث سمح به لكن لا أحد يريد العمل براتب ضئيل لا يتعدى 300 دولار.
التشدد في مرفأ بيروت يدفع بعض المستوردين الى أن يتحولوا الى مرفأ طرابلس «فهل نتشدد ونرسلهم الى حيث التهريب على أوجه. ثمة مبدأ يعتمد جمركياً وهو وجوب تسيير التجارة من دون الإخلال بالرقابة الفعالة وهذا ما نعمل الآن عليه» يقول مصدر في الجمارك.
حين نتحدث عن الجمارك نسمع مراراً عن المركز الآلي الذي باتت غالبية عناصره في السجن ويتوقف في كل مرة. فماذا عنه اليوم؟ يجيب المصدر الجمركي «ليس في هذا المركز الآن إلا عنصر واحد. إثنان من العاملين فيه خرجا من السجن لكن من غير المسموح عودتهما الى موقعيهما، وهناك ثلاثة قدموا استقالاتهم وغادروا. ومن يستمر في الوظيفة فكّر أيضاً أن يغادر ويعمل في أحد البنوك حيث يتقاضى 1200 دولار. لكن تمّ إقناعه بالعدول عن ذلك مقابل حوافز تصل الى عشرة ملايين ليرة لبنانية شهرياً. في كل حال، لمن يسأل عن عمل المركز الآلي اليوم «فقد مضى 15 يوما بلا أعطال وبلا حسيدة». ولمن لا يعرف «السيستام» (النظام) في المركز مقفل كي لا يتم التلاعب فيه».
لا شيء مثالياً في البلد، بل كل شيء يمشي «بالموجود» على قاعدة «بالموجود جود». فمرفأ بيروت يتحقق من القيمة الفعلية للمستوردات وفق أساليب بدائية «متكلين على التجار الأوادم» ويستطرد المصدر الجمركي «التاجر الذي «يزعبر» يكون هناك أزعر يدعمه. لذا فليأخذ المجلس الأعلى للجمارك قراراً باعتماد معايير واضحة ثابتة في كل لبنان لا أن يتم التشهير بأجهزة وأشخاص من بعيد لبعيد».
التشديد واجب لكن التشديد المبالغ به في مرفأ بيروت يدفع «الزعران» الى مرفأ طرابلس. واكثر ما يزعج جمارك مرفأ بيروت هو «أنه أينما حصل الخلل يقولون مرفأ بيروت» بحسب مصدر فيه ويضيف «حتى إذا حصلت فضيحة في مطار بيروت يقولون مرفأ بيروت. إنهم يفكرون الجمرك هو مرفأ بيروت ولا يعرفون أنه على امتداد 10452 كيلومتر مربع».
تتباهى جمارك بيروت اليوم أنها «قطشت رأس الأفعى» في مسألة المخدرات التي كانت تعبر من مرفأ بيروت، ما دفع بالمهربين الى التوجّه نحو الاردن. كانوا يأتون بالبضاعة من سوريا الى لبنان فأصبحوا يذهبون الى الأردن. وما يشعر جمارك بيروت بالقهر أنها «تعمل بضميرها» فيظهر فجأة من يريد تدميرها «فالجمارك هي الضوء الوحيد في البلد ويريدون إطفاءه».
ثمة من يردد في الصندوق الدولي IMF، بحسب جمارك مرفأ بيروت، «أن لا قطاع أو جهاز آخر غير الجمارك قادر على إيقاف الدولة اللبنانية على قدميها. اما في لبنان فيتغاضون عن كل ذلك».
قصّة الجمارك ومرفأ بيروت قصّة، قد تحمل ندوب كثيرة لكن كل العارفين يدركون أن الجهاز يعمل، بما يقدر عليه الآن، لإيقاف الدولة على قدميها، لأنه الوحيد القادر على جلب المال. ربما لذلك، كل العيون حالياً عليه. أما في شأن التهريب فهو ناشط جداً، من مداخل عديدة أخرى يفترض النظر إليها بعينين كبيرتين مفتوحتين. وللحديث تتمة.
قبل أن نختم، ثمة شكوى. تجار السيارات لا يعرفون إذا كان عليهم أن يدفعوا حتى اللحظة جمارك على 8000 أو على 15000. وزير المال أصدر بدل القرار قرارين وكلاهما غير مفهومين. هي شكوى وصلت للتوّ من مستوردي السيارات.