في افتتاحيّة نشرة جمعيّة المصارف هذا الأسبوع، اندفع الأمين العام للجمعيّة فادي خلف للتشديد على أهميّة العودة إلى تقديم التسليفات المصرفيّة. انطلق خلف من تصريح سابق يؤكّد هذه المسألة، للحاكم بالإنابة وسيم منصوري، ليطالب المجلس النيابي بملاقاة منصوري “في منتصف الطريق”، وذلك بإقرار “قانون يضمن سداد القروض بعملة الاقتراض”.
الإقراض ومصلحة “الجميع”
تقديم هذه التسليفات، هو مصلحة للجميع بحسب خلف. فهي تحفّز النمو الاقتصادي، وتساعد المصارف على رد أموال المودعين، والأهم: ستعيد “الثقة” بالقطاع المصرفي. على البرلمان أن يساعد منصوري في هذه المسألة، لمصلحة “الجميع”، المصارف والمودع والاقتصاد.
بطبيعة الحال، تقفز افتتاحيّة خلف فوق كمٍ لا يُستهان به من التعقيدات التشريعيّة والنقديّة والحقوقيّة التي تحيط بالموضوع. لكنّ الافتتاحيّة تؤكّد بشكلٍ واضح أنّ مسألة العودة لمنح التسليفات، تمثّل اليوم أولويّة لدى إدارات القطاع المصرفي، بعدما تراكم في جعبة المصارف نحو 3 مليارات دولار من الدولارات “الطازجة” التي يمكن إقراضها.
كما تؤكّد الافتتاحيّة أنّ العائق ليس سوى فقدان الإطار التشريعي، الذي يضمن عدم سداد القروض “الجديدة” بشيكات الودائع القديمة، أو بالليرة اللبنانيّة. واتّفاق منصوري مع المصارف حول هذه النقطة، يترك الكرة في ملعب مجلس النوّاب، الذي شرع بالفعل –في لجنة الاقتصاد النيابيّة- بمناقشة مقترح قانون من هذا النوع.
تعقيدات حقوقيّة يتجاهلها خلف
قبل الخوض بالتعقيدات المحيطة بالموضوع، فليسمح لنا فادي خلف: قيمة الفوائد السنويّة التي يمكن أن تنتج عن إقراض كل الدولارات الطازجة الموجودة بحوزة المصارف، وهذا مستحيل، لن تتخطّى سنويًا الـ200 مليون دولار، من دون احتساب كلفة النفقات التشغيليّة التي ستترتّب على دراسة طلبات القروض وتكوين الملفّات والرهونات وغيرها.
مبلغ من هذا النوع، سيعيد بعض التوازن إلى حسابات أرباح المصارف، لكنّه لن يؤثّر فعلًا على إمكانيّة رد الودائع القديمة، التي ترتبط بخسائر تفوق قيمتها 73 مليار دولار. باختصار، وبخلاف ما يدّعيه خلف في افتتاحيّته، أرباح الإقراض لن تسهم في “رد الودائع“، والعمليّة لن تصب حتمًا “في مصلحة الجميع”.
المشكلة الثانية، التي يتجاهلها خلف، هو أن فتح باب الإقراض بالدولار الطازج، سيعني إكمال حلقة “النظام المالي البديل”، أي نظام أموال “ما بعد تشرين الأوّل 2019”. النظام المالي، بأبسط معانيه، هو أدوات ادخار وإيداع، ووسائل دفع، وعمليّات إقراض. وبعد أن تمّ تنظيم مسألة “الحسابات الجديدة” و”الدولارات الطازجة” (ادخار وإيداع)، وبعد استحداث مقاصّة الدولارات الفريش في مصرف لبنان (وسائل للدفع)، لم يتبقّ سوى تنظيم إقراض الدولارات الجديدة، كي يكتمل نظام رديف لنظام الدولارات المحليّة المُحتجزة.
وعلى جمعيّة المصارف أن تفهم هذا بوضوح: هواجس المودعين هنا، ليس تفصيلًا يمكن القفز فوقه ببساطة. في تشرين الأوّل المقبل، سيكون قد مضى خمس سنوات على حصول الانهيار المصرفي، من دون أن يُنجَز حتّى اللحظة مشروع القانون الذي ينظّم عمليّة إعادة الهيكلة. والجمعيّة نفسها، لعبت دور البطولة في الإطاحة بالخطط والتصوّرات ومسودّات مشاريع القوانين، التي تمّ العمل عليها لهذه الغاية. ألا يرى خلف أنّ إكمال النظام البديل سيعني تطبيع الوضع الحالي الراهن، تمامًا كما أرادت جمعيّة المصارف طوال السنوات الماضية، بدل طرح الحلول الشاملة التي تعالج الفجوات الموجودة في النظام المصرفي؟
إذًا، ما يُطرح اليوم ليس مصلحة عامّة بالضرورة. وما فعله منصوري، بقذف الكرة إلى ملعب المجلس النيابي، وتوجّس النوّاب من إقرار مشروع قانون بهذا الخصوص، ليس سوى دلالة على إدراك جميع هؤلاء لحجم التعقيدات التي تحيط بهذا الملف. تمكين المصارف من منح التسليفات، على هذا النحو، سيعني العودة إلى “العمل كالمعتاد” بالنسبة للقطاع، إنما قبل أن تدفع المصارف حصّتها من كلفة التعافي المالي. ما سيلي ذلك، كما تريد المصارف طبعًا، هو حصر أزمة الخسائر بين الدولة ومصرف لبنان، عملًا بطروحات الجمعيّة المألوفة المطالبة بتحويل جزء من الودائع إلى ديون على الدولة.
التعقيدات النقديّة والماليّة
في الوقت نفسه، تتجاهل افتتاحيّة خلف بعض التعقيدات الماليّة والنقديّة التي تحيط بالموضوع. إذ خلال جميع النقاش التي حصلت، لم يتضح مثلًا: هل ستتم قوننة سداد جميع القروض الجديدة والقديمة بعملة الإقراض؟ أو سيتم تمييز القروض الجديدة عن قروض ما قبل تشرين الأوّل 2019، كما حدث بالنسبة للودائع؟ وكيف سيتم تنظيم هذه القيود الجديدة كجزء من أدوات “ضبط السيولة” المتبقية في النظام المالي؟ هل سيُفتح الباب أمام إقراض الأموال المتأتية من “الودائع الجديدة” فقط، أم سيكون بإمكان المصارف الإقراض من أموالها الخاصّة أيضًا؟ وما هي نسبة الاحتياطات التي يفترض الاحتفاظ بها، وعدم إقراضها، كي تحافظ المصارف على سيولتها؟ وأين سيتم إيداع الاحتياطات؟ في أي نوع من التوظيفات؟
لا يوجد إجابات لكل هذه الأسئلة، التي يفترض أن تندرج ضمن إطار الحل الشامل. الحل الشامل، هو الذي يفترض أن يقدّم أدوات ضبط السيولة وتقنين استخدامها، بالتوازي مع عمليّة معالجة الخسائر وإعادة الهيكلة. وهو الذي يفترض أن يقدّم التطمينات لأصحاب الودائع القديمة، لضمان أنّ خطوة الإقراض لن تعني تجاوز أزمتهم، أو استحداث نظام مالي بديل متكامل بعيدًا عن النظام المأزوم. المشكلة الأساسيّة هنا، هي أن المصارف لا تريد هذا الحل، بل على العكس تمامًا: تريد الإجراءات التي تسمح بتجاوز هذا الحل.
في النتيجة، لا يوجد أدنى شك بضرورة العودة لتنظيم عمليّات الإقراض، خصوصًا أن القطاعات الاقتصاديّة المختلفة باتت تحتاج إلى مروحة واسعة من الخدمات الماليّة والتسهيلات التي تسمح بتمويل التجارة الداخليّة والدوليّة. ومن دون هذه التسهيلات، يصعب تصوّر نمو أعمال التصدير أو التصنيع أو تمويل المشاريع. المشكلة ليست في الفكرة بحد ذاتها، بل في تبسيط المسألة واعتبار أنّ تشريعًا سريعًا من جانب المجلس النيابي سيكون كفيلًا بتحقيق “مصلحة الجميع” في عمليّات الإقراض.