بعد أيام، تبدأ حفّارة «توتال» حفرها الاستطلاعي في البلوك 4، قبالة الساحل الشمالي لبيروت. وفي آذار، ربما تَزُفّ البُشرى إلى اللبنانيين… إذا كانت هناك كميات من الغاز تكفي لتأهّل لبنان كي يدخل نادي البلدان المنتجة للغاز الطبيعي. حتى الآن، كل شيء طبيعي. ولكن، هل يعرف لبنان ماذا سيفعل بعد ذلك؟ وكيف سيتصرف فيما العمالقة في المنطقة والعالم رسموا الخطط ودخلوا حروباً خطرة من المتوسط إلى مضيق هرمز، من أجل المياه الدافئة والغاز والنفط؟
لا يمكن استبعاد الوجهة الاقتصادية، النفطية تحديداً، عن الصراع اليوم في الخليج. ولا يمكن تجاهل أنّ الإدارة الأميركية الحالية يقودها رئيسٌ متمرّس بالصفقات، سياسياً واقتصادياً.
يعتقد خبراء أنّ ردّ طهران، عقب اغتيال قائد «فيلق القدس» اللواء قاسم سليماني، سيكبّد الكثيرين تكاليف، ولكن واشنطن قد تتجاوزه وتستفيد منه. وحتى مطالبة بغداد بخروج القوات الأميركية من أراضيها، إذا تحققت، سيربطها الأميركيون بالمليارات التي دفعوها هناك منذ 2003، ويصعب على العراقيين تسديدها، خصوصاً في هذه الظروف.
ويقول الخبراء: إذا أقفل الإيرانيون مضيق هرمز، لمعاقبة الأميركيين وحلفائهم، فإنّ عمليات تصدير النفط التي تقوم عليها الحركة الاقتصادية العالمية بنسبة تفوق الـ25%، ستتوقف، وسيتضرّر الخليجيون.
أما الولايات المتحدة فقد تكون فرصتها لزيادة إنتاجها من النفط الأحفوري الذي اكتشفت كميات هائلة منه في أراضيها. وسيزداد الطلب العالمي عليه عندئذٍ، على رغم كونه أغلى ثمناً من النفط العربي، لأنّ إنتاجه أكثر صعوبة. والسبب هو أنّ ثمنه سيصبح مناسباً عندما ترتفع أسعار النفط العربي بسبب الأزمة وتراجع الكميات.
وسيستفيد الأميركيون من كون فنزويلا وإيران في حال الأزمة وتحت الحصار، وهما دولتان أساسيتان في نادي الدول المصدِّرة، فيما هم يسيطرون على المصادر في دول أخرى.
إذاً، في عمق الصراع الأميركي – الإيراني، الذي شاء لبنان أن يقحم نفسه فيه، لا يمكن استبعاد ملف النفط والغاز. وبينما ما زال لبنان يتعامل مع أزماته الاقتصادية والسياسية القاتلة بالأساليب التقليدية، وببطء شديد، تنطلق أزمات النفط والغاز والحروب البالغة الخطر، بل تتقاطع، في مياهه الاقتصادية الخالصة.
وهذه الأزمات والحروب انطلقت خلال أيام قليلة، وفي شكل صادم، وهي تنذر بما لا يمكن توقّعه. ويجدر التفكير جيداً في الحيثيات التي دفعت بباخرة البحث اليونانية، الآتية من حيفا، إلى اختراق السيادة اللبنانية قبل أسابيع، والتوقف لساعات في البلوك 9 المحاذي للآبار الإسرائيلية.
فالصراع على مصادر الغاز الطبيعي شهد اندفاعة قوية في الأيام القليلة الماضية، من المتوسط غرباً إلى الخليج العربي شرقاً مروراً بتركيا، ومن أوروبا الغربية إلى شرق آسيا، مروراً بروسيا. وخريطة هذا الصراع تبدو كالآتي:
1- هناك خط «شرق المتوسط»، الذي يربط بين إسرائيل ومصر والأردن وقبرص واليونان. وقد تمّ توقيع الاتفاق عليه قبل أيام في أثينا. وهو سيضخّ الغاز الإسرائيلي إلى إيطاليا فبلدان أوروبية أخرى. ويحاول أركان هذا الاتفاق تطمين روسيا إلى أنهم ليسوا في وارد منافستها في أوروبا، بل إنهم مهتمون بفتح أسواق جديدة.
2- هناك خط تركيا- ليبيا الذي يرتكز على عملية ترسيم الحدود التي تمّت بين الطرفين وتحاول أنقرة حمايتها بالتدخل العسكري في ليبيا لمصلحة حكومة فايز السرّاج. ويردّ الأتراك على تجاهل اليونان وإسرائيل ومصر واقع سيطرتهم على الجزء الشمالي من قبرص. لذلك، بادروا إلى التحدّي بإرسال سفن للتنقيب قبالة شواطئ الجزيرة ومناطق أخرى في المتوسط.
لكنّ الأخطر هو اتفاق ترسيم الحدود بين ليبيا وحكومة السرّاج في نهاية تشرين الثاني الفائت، لأنه يتجاوز السيادة اليونانية على جزيرة كريت. ويهدّد إرسال تركيا قواتها إلى ليبيا، ومواجهة قوات حفتر المدعومة مصرياً وسعودياً، باحتمال تورّط الجميع في مأزق أشدّ صعوبة من المأزق السوري.
ويدور الصراع على غاز المتوسط على رغم كونه أعلى كلفة من غاز روسيا وقطر وسائر الخليج العربي، بسبب وجوده على أعماق كبيرة تحت البحر. وهذا الصراع بدأ يتسبّب بصراعات حول الحدود وحروب للسيطرة على الأنظمة والنفوذ داخل كل دول الشرق الأوسط.
3- هناك شبكة الخطوط الروسية للغاز، وأبرزها:
أ – الخط الذي يعبر تركيا وبلغاريا نحو أوروبا الغربية، وقد أنشىء للحدّ من العبور في أوكرانيا ورومانيا. وبدأ الضَخّ قبل يومين. والغاز الروسي حتى الآن هو الأرخص سعراً في أوروبا. وهو ينافس كثيراً أسعار الغاز الأميركي المُسال.
ب – خط الغاز الروسي – الصيني عبر سيبيريا، الذي ساعد الصين على خفض أسعار الغاز في آسيا قرابة 25% خلال العام الفائت. وهذا ما تحتاج إليه بكين بإلحاح لزيادة عامل المنافسة في صادراتها الصناعية.
4- هناك غاز الخليج العربي. والاشتباك الأميركي – الإيراني قد تكون له انعكاسات على استقرار الموارد النفطية.
في هذا الخضمّ، على لبنان أن يختار أين سيكون في هذا الملف؟ وأي استراتيجية سيعتمدها؟ كم سينتج من الغاز؟ كم سيصدّر؟ ولمن؟ وكيف سيواجه المنافسات القوية في الأسعار ليحقق المردود المناسب؟
يرجّح الخبراء أن يكون استخراج الغاز في لبنان، في المرحلة الأولى على الأقل، في خدمة الاستهلاك المحلي. فهذا كافٍ لتوفير فاتورة هائلة تدفعها الدولة اللبنانية لتسديد فاتورة الكهرباء وتوفير الطاقة للاستهلاك الصناعي والمنزلي وحركة النقل. ومن شأنها أن تقلِّص الضغوط الاقتصادية التي يرزح تحتها لبنان.
ولكن، سيكون مُلحّاً إقرار استراتيجية للموارد الغازية والنفطية يتم من خلالها تَموضع لبنان وسط هذا التشابك الحادّ والساخن بين القوى الإقليمية والدولية:
فهل يقترب من أحد المحورين المتصارعين على النفط في المتوسط، أم سيختار طريقاً مستقلاً؟ كيف؟ وما هي تأثيرات خيار لبنان الغازيّ على خياراته السياسية الكبرى، وتحديداً في ما يتعلق بالمفاوضات الحدودية التي يُفترَض أن يخوضها مع إسرائيل بوساطة أميركية؟
وأي قوة سيتمتع بها لبنان في أي مفاوضات، فيما هو يتهاوى اقتصادياً ومالياً حتى الانهيار، في ظل عقوبات أميركية متنامية على «حزب الله» وحلفائه، وسط بلبلة سياسية داخلية وحالٍ من التخلّي الأوروبي؟
وهل يبيع لبنان غازه ونفطه وهو ما زال مدفوناً في قاع البحر، أو يرهنه للدائنين الذين تشتد ضغوطهم على لبنان، مطالبين بالسداد؟ وهل يجد مَن يشتري هذا المخزون؟ وهل ستكون الأسعار متهاودة بسبب حاجة لبنان الملحّة جداً إلى المال؟
حروب الغاز والنفط وصراعاتها مشتعلة شرقاً وغرباً، والمسؤولون اللبنانيون الذين أهدروا المال اللبناني فوق الأرض على وشك أن يهدروا المال الذي تحتها. وفي ظل تخبّطهم العبثي في خطط النفايات على مستوى المكبّات على الشواطئ، لا أحد يأمل منهم أن يُقِرّوا استراتيجية حكيمة لموارد الغاز والنفط على مستوى الشرق الأوسط.
وفيما مراكز الأبحاث في واشنطن وتل أبيب وموسكو وبكين وسواها تخطط للمستقبل، تَتفتّق عبقرية الزعماء النافذين في لبنان على الوسائل الناجعة لإسكات الانتفاضة والاستمرار في نهب الدولة. وأما الغاز- للتذكير- فهو مادة سريعة الاشتعال، وأيضاً سهلة التبخُّر!
طوني عيسى – الجمهورية