حصيلة النقاشات والخلافات: لتغيير السياسات المالية والاقتصادية

 

أظهرت وقائع تفاصيل المناقشات التي حصلت خلال الأشهر القليلة الماضية حول الوضعَين المالي والاقتصادي وضمنه مشروع موزانة العام 2019، حجم النتائج الكارثية التي ترتّبت على السياسات السابقة التي اعتُمدت منذ العام 1993، وحجم الهوّة بين نظرات مختلفة لمقاربة هذين الوضعَين، وهي توجّهات ليس مختلفة فقط بل ومتعارضة إلى حدّ كبير، بدليل إطالة المناقشات والمفاوضات حول الإجراءات التي يُفترض أن تتّخذها الحكومة من أجل تخفيض عجز الموازنة وترشيق النفقات و”تنفيس” كرة القطاع العام المنفوخة بأكثر من حجمها وحاجتها، نتيجة التوظيف السياسي – الانتخابي الذي زاد من عدد المتطفّلين على العمل الرسمي غير المنتج.

ومن النظرة الأولى يظهر التوجّه المتناقض لرأيَين مختلفَين في مقاربة الوضع الاقتصادي والإصلاح المالي، رأي لا زال متمسّكاً بالاقتصاد الريعي الخدماتي وعماده الخصخصة المتوحّشة، ورأي يتمسّك بالتوجّه للاقتصاد المنتج صناعياً وزراعياً وسياحياً وفي كل القطاعات الأخرى التي يُمكن أن تُعيد إحياء الطبقة المتوسطة، وهي الطبقة التي تُنفق أموالها في البلد بخلاف الأغنياء الذين يُنفقون معظم ثرواتهم ويقيمون استثماراتهم في الخارج، عدا عن الاختلاف في النظرة إلى كيفية معالجة هيكلة الدولة المالية وإلى سياسة مصرف لبنان، التي يرى البعض أنها تعتمد منذ سنوات “تركيب الطرابيش” نتيجة الاستدانة وتوظيف الأموال في سندات الخزينة ما يعني جمود كتلة نقدية كبيرة، بدل استخدامها في الإنتاج وعجلة الدورة الاقتصادية.

كان أحد رؤساء الوزراء السابقين يقول رداً على انتقادات السياسة المالية والاقتصادية المتّبعة منذ التسعينيات وحتى العام 2010، “ليس كل من صفّ صواني صار حلواني”، وكان يرفض أي نقاش أو اقتراحات غير تلك التي تُناسب سياسات التيار السياسي الذي يمثّله أو المجموعة الاقتصادية – المالية التي تدور في فلكه، فوصلت أحوال البلد إلى ما وصلت إليه نتيجة هذه السياسات، والتي فاقمتها حالة الفساد الواسعة، والأوضاع الأمنية المتردّية بعد الاعتداءات الإسرائيلية المتكرّرة لا سيّما عدوان حرب تموز- آب 2006، والأعمال الإرهابية التي انتشرت منذ العام 2011 وحتى العام 2017، ومن ثم إقرار سلسلة الرتب والرواتب بطريقة ارتجالية عشوائية غير مدروسة، عدا حالة الفراغ الرئاسي، وتأخير إجراء الانتخابات النيابية، فتراجعت الثقة بلبنان نتيجة هذه العوامل مجتمعة، خاصة أن لبنان فقد شبكة الأمان الداخلية والعربية والدولية.

وعند طرح مشروع موازنتَي 2018 و2019، استشعرت الطبقة السياسية الحاكمة خطورة نتائج سياساتها الاستهلاكية والريعية والتنفيعية، فوقعت في محظور إيجاد الحلول الجذرية من أجل إعادة إصلاح الاقتصاد والمالية العامة، وجاءت التسريبات عن المقترحات المطروحة لترشيق وتخفيض الإنفاق، لتشير إلى العودة إلى سياسة “تركيب الطرابيش”، فأمسكت المقصّ وبدأت بجزّ ما أمكن بطريقة ارتجالية وعشوائية، ما ولّد حالة احتقان شعبي لا يدري أحد متى وكيف ستنفجر إذا تمّ تنفيذ التقشّف على حساب الطبقات المتوسطة والفقيرة.

لذلك بدأت تصدر أصوات من قِبل أخصائيين في المجالات الاقتصادية والمالية محسوبين على أطراف سياسية معينة، تطالب بتغيير كل السياسات السابقة وطرحت حلولاً واقعية ومعقولة، واعتماد سياسات تُعيد النظر بكل هيكلية الدولة إدارياً ومالياً واقتصادياً، بعيدة عن الارتهان للمؤسسات الدولية المالية والنقدية التي إن أغرقت أي بلد بالديون والقروض أحكمت سيطرتها السياسية عليه، كما حصل في دول كثيرة من خمسينيات القرن الماضي وحتى الآن. ويُخشى أن يقود هذا الاختلاف إلى مشكلات وانقسامات سياسية تتعطّل معها عجلة الدولة وآلة الحكم بشكل عام، ما لم يقتنع “أصحاب الطرابيش” بأن غيرهم “حلواني ويعرف أيضاً صفّ الصواني”.

بواسطةغاصب مختار
مصدرليبانون فايلز
المادة السابقةالسجون البريطانية تستعين بتقنية ذكية لاكتشاف استخدام الهواتف
المقالة القادمةسلامة نقلاً عن الحريري: لا ضرائب على المصارف