خلال أيام معدودة، تقاطعت ثلاثة عوامل مستجدّة لتخلط الأوراق في سوق القطع في لبنان، ولتزيد من الضغوط التي تتعرّض لها الليرة اللبنانيّة. وبصورة أوضح، من المتوقّع أن تؤدّي هذه العوامل الثلاثة معًا إلى إطلاق العنان لموجة جديدة من موجات الارتفاع السريع واليومي في سعر صرف الدولار الأميركي في السوق الموازية، في نوبة جديدة من نوبات السُعار المفاجئ، التي اعتادت أن تضرب السوق خلال السنوات الثلاث الماضية بين الحين والآخر، عند تقاطع هذا النوع من العوامل.
ببساطة، وفي الفترة المقبلة، سيكون على سوق القطع التعامل مع أضخم نسبة ارتفاع شهدها لبنان منذ بداية الأزمة في حجم السيولة المتداولة بالليرة، نتيجة ضخ مصرف لبنان لكتلة ضخمة من الليرات في السوق بشكل مفاجئ. كما ستتأثّر السوق بعودة المصارف إلى إقفال الفروع المصرفيّة ابتداءً من صباح اليوم، وما سينتج عن هذا القرار من تقلّص في المعروض النقدي بالعملة الصعبة. وأخيرًا، من المفترض أن تصيب السوق المحليّة تداعيات قرار خفض إنتاج النفط الذي اتخذه تحالف أوبيك+، وما سينتج عنه من ارتفاع في أسعار المحروقات عالميًّا، وزيادة الحاجة إلى العملة الصعبة لتمويل استيراد هذه المواد.
أكبر تضخّم في الكتلة النقديّة
خلال الأسبوع الحالي، نشر مصرف لبنان كعادته الميزانيّة نصف الشهريّة، التي تعكس أرقام النصف الثاني من شهر أيلول الماضي. لكن هذه المرّة، حملت الميزانيّة مؤشّرات شديدة الخطورة على مستوى الكتلة النقديّة المتداولة بالليرة، وحجم الضغوط التي ستتعرّض لها قيمة الليرة اللبنانيّة خلال الفترة المقبلة.
فخلال النصف الثاني من شهر أيلول، أي خلال 15 يومًا فقط، ازدادت قيمة الكتلة النقديّة المتداولة بالليرة بنحو 13.85 ألف مليار ليرة، ما رفع حجمها الإجمالي من 45.1 ألف مليار ليرة في منتصف شهر أيلول، إلى أكثر من 58.94 ألف مليار ليرة في أواخر الشهر. ولتبسيط المسألة أكثر، تضخّم حجم السيولة المتداولة بالليرة بنحو 1.3 مرّات، خلال فترة قصيرة جدًا لا تتخطى نصف الشهر، ما يُعد أسرع وأكبر تضخّم نصف شهري في حجم السيولة المتداولة بالعملة المحليّة منذ بداية الأزمة. وكما بات معلومًا، فإن أي زيادة في حجم النقد المتداول بالعملة المحليّة صار يعني اليوم زيادة موازية ومتناسبة في الطلب على الدولار في السوق، إما للاستهلاك والاستيراد وإمّا للادخار، نظرًا لتراجع الثقة بمستقبل العملة المحليّة.
لا يحتاج المرء إلى كثير من التحليل لفهم سبب ضخ هذه الكميّة من النقد، والتي توازي نحو ثلث النقد المتداول أساسًا في منتصف أيلول. فنظرة سريعة إلى حجم احتياطات المصرف المركزي بالعملات الأجنبيّة، تظهر زيادتها خلال الفترة نفسها بنحو 278 مليون دولار، أي ما تتجاوز قيمته 11 ألف مليار ليرة بسعر السوق الموازية. بمعنى آخر، استعمل مصرف لبنان هذه الكتلة من الليرات -التي تم ضخها في السوق- لشراء العملة الصعبة من السوق الموازية، وبسعر السوق نفسها، ما سمح بزيادة احتياطي العملات الأجنبيّة بهذه القيمة، وبزيادة الكتلة النقديّة بالليرة بهذه النسبة. مع الإشارة إلى أنّ هذه العمليّة كبّدت مصرف لبنان كتلة من الخسائر الإضافيّة، التي تراكمت تحت بند الموجودات الأخرى كالعادة.
في جميع الحالات، من المتوقّع أن تعاني السوق الموازية طوال شهر تشرين الأوّل من التضخّم الذي جرى في حجم الكتلة النقديّة المتداولة بالليرة، بمجرّد استيعاب النقد الذي تم ضخّه ضمن تداولات السوق. ومن المعلوم أن السوق بدأت طوال الأيام الماضية بتسجيل ارتفاعات مستمرّة في سعر صرف الدولار، بما يؤشّر إلى أنّ السوق بدأت أساسًا بالتأثّر بهذا التطوّر الخطير.
ومن المهم الإشارة هنا إلى أنّ مصرف لبنان لطالما سجّل في ميزانيّته ارتفاعات أو انخفاضات في حجم الكتلة النقديّة المتداولة، حسب قرارات ضخ أو امتصاص السيولة التي يتخذها المصرف، إلا أنّ الميزانيّة لم تشهد يومًا هذا الضخ المفاجئ والسريع في السيولة بالليرة، ما يطرح السؤال عن سبب اندفاع مصرف لبنان إلى شراء الدولارات بهذه الطريقة من السوق الموازية.
عودة المصارف إلى الإقفال
عادت المصارف صباح أمس لإقفال أبوابها من جديد، مع الاكتفاء بملء ماكينات الصرّاف الآلي وإجراء العمليّات التجاريّة لمصلحة الشركات. وبهذا المعنى، من المتوقّع أن تستمر المصارف بتمويل بعض عمليّات الاستيراد من خلال منصّة صيرفة، إلا أنّ إقفال الفروع سيحرم السوق الموازية من كتلة من الدولارات التي كانت ترد عبر بيع دولارات المنصّة لأصحاب حسابات توطين الراتب. وهذه العمليّات، ساهمت طوال الأشهر الماضية -رغم تفاوت قيمتها بين مصرف وآخر- بتقليص التراجع في قيمة الليرة اللبنانيّة مقابل دولار، من خلال زيادة المعروض النقدي بالعملة الصعبة. ولهذا السبب، سيؤدّي إقفال المصارف اليوم إلى تقليص معروض الدولار، وبالتالي دفع سعر صرف الدولار للارتفاع في السوق.
حتّى اللحظة، من غير الواضح أفق أو أمد الإقفال المستجد. لكنّ الأكيد أن الإقفال الذي سيبدأ اليوم، سيمتد بحكم الأمر الواقع حتى يوم الثلاثاء المقبل، بحكم إقفال القطاع إلتزامًا بعطلة عيد المولد النبوي يوم الإثنين. مع العلم أن مجرّد إقفال القطاع على هذا النحو، يزيد من ضبابيّة المشهد المالي والنقدي بالنسبة للسوق، ما يزيد من ضغط الطلب السريع والملح على الدولار الأميركي.
قرار خفض إنتاج النفط
قرّر تحالف أوبيك+ هذا الأسبوع خفض إنتاج النفط، بمستوى قياسي يبلغ مليوني برميل يوميًّا، بهدف الحد من التراجعات التي طرأت خلال الأسابيع الماضية على سعر برميل النفط. وحسب التوقعات، من المحتمل أن يؤدّي هذا القرار إلى زيادة تدريجيّة في سعر البرميل، بنسبة قد تصل إلى حدود 20% قبل نهاية العام الحالي. مع الإشارة إلى أنّ أسعار برميل النفط كانت قد سجّلت بالفعل ارتفاعات وصلت إلى هذا الحدود في فترات سابقة من هذا العام، قبل أن تعاود الانخفاض بفعل تراجع معدلات النمو الاقتصادي في معظم أنحاء العالم. ومع هذا الارتفاع المتوقّع في سعر برميل النفط، سيكون من الطبيعي أن ترتفع بالتوازي فاتورة استيراد جميع المشتقات النفطيّة بالعملة الصعبة بهذه النسبة في لبنان، ما سيزيد الطلب على العملة الصعبة في السوق الموازية، ويزيد من ارتفاع سعر صرف الدولار مقابل الليرة فيها.
في النتيجة، من المرتقب أن تشهد السوق ضغوطًا استثنائيّة على قيمة الليرة في الأيام المقبلة، إلا أنّ الإشكاليّة الأهم تبقى غياب المعالجة النقديّة المستندة إلى خطة تعافي شاملة. وبغياب هذه المعالجة، ستظل سوق القطع مكشوفة أمام هذا النوع من التقلّبات السريعة، بدلًا من استعياب هذه التقلّبات من ضمن الأهداف التي تضعها السياسة النقديّة على المدى الطويل. وفي الوقت الراهن، من الواضح أن السوق لا تمر أساسًا بأفضل أيامها، وهو ما ظهر من خلال ملامسة سعر صرف الدولار حدود 40 ألف ليرة خلال ساعات يوم أمس، ومع افتتاح السوق الموازية صباح اليوم على سعر صرف قارب 39,750 ليرة للدولار.