لم يوضع النظام الضريبي بين أكثر الإصلاحات إلحاحاً عن عبث. بل لأن في إصلاحه ضماناً للإستدامة المالية، وتمكيناً للدولة من تمويل الإنفاق الاجتماعي، وإصلاح الاقتصاد على أساس العدالة والمساواة واستعادة الحد الأدنى من الثقة بين المواطنين ودولتهم.
ولأن لا سياسة ضريبية سليمة في لبنان، بل إجراءات ورسوم ضريبية مرتجلة، غير مستندة إلى إطار مالي معين، أدت العديد من التدابير الضريبية إلى خلل في النظام الضريبي، وأثرت سلباً على الاستدامة المالية والنشاط الاقتصادي والعدالة الاجتماعية.
باختصار، يعبث الخراب بالنظام الضريبي في لبنان، حتى أن الإصلاحات في حال حصلت تكاد تعجز عن تصويب السياسات الضريبية. إذ بات الأمر يستلزم إعادة تكوين شاملة للنظام الضريبي.
دراسة النظام الضريبي
هذا المشهد تعكسه دراسة أعدتها جمعية Financially Wise (تعنى بالتثقيف المالي والاقتصادي للقطاعين العام والخاص)، بالتعاون مع معهد باسل فليحان المالي والاقتصادي، حول النظام الضريبي في لبنان وكيفية استعادته النمو وتحقيق العدالة. وخلصت الدراسة إلى حقائق مريعة عن النظام الضريبي في لبنان أبرزها أن اعتماد تدابير ضريبية بشكل منعزل عن بعضها البعض، أدى إلى خلل في النظام الضريبي. كما أن هذا النظام لا يحصّل ما فيه الكفاية من الايرادات. بالإضافة إلى أن الإيرادات الضريبية -التي غالباً ما شكّلت الحصة الأكبر من ايرادات الدولة- ضاعفت من تعرّض الاستدامة المالية لمزيد من التهديدات.
وقد انخفضت الضرائب -حسب صندوق النقد الدولي- من الناتج المحلي الإجمالي من 15.1 في المئة في العام 2019 إلى نحو 6.6 في المئة في أواخر العام 2021.
وترى رئيسة معهد باسل فليحان، لمياء مبيض بساط، أن النظام الضريبي في لبنان معقّد، وإصلاحه مسألة صعبة باتت تستلزم إعادة تكوين شاملة. ولكن لا بد من الإنطلاق من نقطة ما. وتتوقع بساط أن لحظة إنطلاق العمل على النظام الضريبي اقتربت. إذ لم يعد هناك من موارد مالية لدى الدولة. من هنا، لا بد من إعادة تكوين النظام الضريبي، وجعله أكثر عدالة، وتمكينه من تأمين الواردات الضامنة لسير المرافق العامة.
وحسب الدراسة، التي عرضها اسكندر البستاني من جمعية فاينانشلي وايز، فإن المثير للجدل هو أن المحاولة الوحيدة لرفع الضرائب ارتدّت سلباً. فبين أواخر العام 2017 وبداية العام 2018 تم اتخاذ العديد من التدابير لرفع معدلات الضريبة، إلا أنه وفي سياق الانكماش الاقتصادي أنتجت هذه التدابير تأثيراً معاكساً، أدى إلى تراجع مستوى الجباية بنسبة 1.8 في المئة. كما أدى إلى انخفاض معدلات جباية الضريبة على القيمة المضافة TVA التي تعد المصدر الرئيسي للإيرادات الضريبية للدولة، بنسبة 15.2 في المئة.
أما مؤخراً، وتحديداً في عام 2021، وبالرغم من الزيادة الاستثنائية في تحصيل الضريبة على القيمة المضافة، أصبح النظام الضريبي أكثر تمييزاً وإجحافاً.
لا عدالة بالنظام الضريبي
تشوب النظام الضريبي في لبنان الكثير من الشوائب. وقد سبق لـ”المدن” ان أعدت تقاريراً تناولت فيها الإجحاف اللاحق بفئات كثيرة من المكلّفين، منها الموظفون الذين يتقاضون رواتبهم بالليرة، والذين يتكبّدون عبئاً ضريبياً أعلى من أولئك الذين يتقاضون رواتبهم بالدولار. كما يتكبّد هؤلاء المتقاضون رواتبهم بالدولار عبئاً ضريبياً يفوق الضريبة على مداخيل الشركات والتجار وأصحاب الرساميل.
وبالإضافة إلى غياب العدالة الضريبية في لبنان، ترى الدراسة أن التأخير المتكرر وتمديد فترة السماح للتصريح ودفع الضرائب، لاسيما في أوقات التدهور السريع لقيمة العملة، يؤدي إلى ازدياد التمييز بين المكلّفين وعدم المساواة فيما بينهم. إذ يفتح لفئة دون أخرى فرصة الاستفادة من عائد فائدة السيولة المتوفرة لديهم، ومن عامل مرور الوقت الذي يؤثر على القيمة الفعلية للضرائب.
وقد لاحظت الدراسة بأن ضعف التدقيق أدى إلى زيادة احتمالية التهرب أو التجنب الضريبي بشكل كبير. وشكّل بالتوازي أداة غير مباشرة لمعاقبة المكلّفين الملتزمين لصالح الممتنعين عن دفع الضرائب.
ثغرات في الضرائب التصاعدية
كما سلطت الدراسة الضوء على ثغرات في التصميم التصاعدي للضرائب، بما في ذلك ضريبة الدخل ورسم الانتقال وضريبة الأملاك المبنية. هذه الثغرات ناتجة إلى حد كبير عن عدم اعتماد التراكمية في احتساب الضريبية التصاعدية.
وبعد تعديلات لحظها قانون موازنة عام 2022، تراجع أثر تصاعدية ضريبة الدخل من جديد، واتسعت الفجوة بسبب انخفاض قيمة العملة وعدم احتساب الضريبة على أساس القيمة الحقيقية للإيراد.
وأدت التعديلات عينها المعتمدة في موازنة 2022 إلى زيادة التفاوت الضريبي بين فئات المكلّفين بضريبة الدخل. وتعرّض رسم الإنتقال لتهرّب ممنهج.
أما المعاملات التفضيلية، بما في ذلك التنزيلات والإعفاءات، فهي كثيرة ومصممة إما لصالح قطاعات أو صناعات محددة، او لفئات محددة من دافعي الضرائب. وبالنسبة للضرائب التي تغطيها الدراسة، وهي ضرائب الدخل ورسم الانتقال وضريبة الأملاك المبنية والضريبة على القيمة المضافة، فتم منح إعفاءات لما لا يقل عن 135 فئة من الأفراد والصناعات، وتنزيلات خاصة لما لا يقل عن 27 فئة من الأفراد.
وترى الدراسة بأن الاستخدام المفرط للمعاملة التفضيلية يوسّع فجوة عدم المساواة بين المكلّفين بشكل عام. كما أنه يجعل من الصعب على الإدارة ضبط الإجراءات والتحكم بها. كما أنه يزيد من مخاطر واحتمال الاستنسابية في تطبيق القوانين.
ومما لا شك فيه أن توحيد معايير المعاملة التفضيلية، بما في ذلك الإعفاءات والتنزيلات، يعد أمراً أساسياً لاستعادة الحد الأدنى من العدالة.
آلية الإصلاح الضريبي
أظهرت تجربة الدول أنه لا توجد مقاربة مثالية واحدة لإصلاح النظام الضريبي. وتُعد الحالة اللبنانية -حسب الدراسة- حالة فريدة من نوعها، بسبب تعقيد مكونات اقتصاده السياسي. ونظراً للظروف والتحديات التي قد تعترض مسار وجهود الإصلاح، يمكن للبنان أن يعتمد على مسارين محتملين:
الأول، سيناريو طويل الأجل من شأنه أن يرسخ الإصلاح في صلب الحوار المجتمعي والنقاش السياسي، ويخلق بيئة حاضنة لإعادة بناء أو تصميم أو هيكلة نظام ضريبي، موجّه نحو المزيد من التصاعدية، بما في ذلك الضرائب الموحدة وضريبة الثروة والضرائب المخصّصة، وحزم الحوافز الضريبية، وإدارة الأداء، وتوعية المواطنين، وغير ذلك.
أما الخيار الثاني، فيتمثل في تنفيذ تدابير تصحيحية لتثبيت النظام القائم في الأجلين القصير والمتوسط. ومن بين هذه التدابير، تحسين تحصيل الإيرادات، وإنهاء استنزاف القدرات، وتحديث تصميم السياسات، وتوحيد الإجراءات، وتعزيز مشاركة المواطنين.
أما الخيارات المعتمدة حالياً في السياسة الضريبية في لبنان، فلا تتعدى كونها عمليات “ترقيع” تكرّس تدريجياً اللاعدالة الضريبية بين المكلّفين، وتحرم خزينة الدولة من عائدات مالية هائلة.
انطلاقاً من الدراسة، وبالنظر إلى الخراب داخل الإدارة الضريبية، وفقدانها للكوادر الكفوءة، وتعدد وتشرذم المفاهيم داخل النظام الضريبي نفسه، بات لزاماً على السلطات المعنية إعادة تكوين النظام الضريبي من جديد، وترسيخ المسار السليم لتأمين واردات تصل بشكل عادل وفاعل إلى الفئات الأكثر ضعفاً، من خلال مساهمة كل فرد بالمجتمع بالضريبة بما يتلاءم وحجم إنتاجه. مع التشديد على ربط النظام الضريبي والإستدامة المالية بحلقة متصلة، قوامها السلطة التشريعية.