تواصل 197 دولة إلى جانب الإتحاد الأوروبي، بحث مسألة تغيُّر المناخ وسبل الحدّ منه عبر خفض انبعاثات الغازات الملوِّثة، لما في استمرارها من تأثيرات كارثية على الأرض والبشر. لكن في كل مؤتمر لبحث هذا الملف، تخلص الاجتماعات إلى توصيات ومقرّرات، قلّما يتم الالتزام بها، فيكون التطبيق رمزياً وتحرِّر حكومات الدول الكبرى، وشركاتها العملاقة، نفسها، من الضوابط التي وافقت عليها داخل جدران القاعات. فيستمرّ التلوّث وترتفع مؤّشرات الخطورة على الكوكب وسكّانه.
ومع تسارع وتيرة الاعتماد على الطاقة البديلة، بات مطلب خفض الانبعاثات أكثر قابلية للتطبيق، لوجود البديل. لكن العبرة دائماً تبقى في الالتزام، نظراً لدخول عامل الربح المادي جرّاء الاعتماد على المصادر التقليدية للطاقة، كالوقود الأحفوري، على خطّ نقاش مستوى الالتزام بخفض الاعتماد على المصادر التقليدية وتفعيل الاعتماد على المصادر المتجدّدة. ويُقحِم لبنان نفسه وسط هذا النقاش، رغم امتلاكه قطاع طاقة مترهِّل على شاكلة الدولة.
الاتّكال على الحكومات وكبرى الشركات العالمية
بين العامين 1995 و2023 عُقِدَت 28 نسخة من مؤتمر الأمم المتحدة المعني بتغيّر المناخ، أفضت إلى الكثير من القرارات والمعايير التي يجب أن تعتمدها حكومات الدول والشركات، وخصوصاً الكبرى، وعلى رأسها شركات النفط. لكن المعضلة كانت بالالتزام بالتعهّدات.
وتستضيف دولة الإمارات العربية المتحدة النسخة الحالية من المؤتمر، بعد استضافة مصر النسخة السابقة. وبين النسختين، القليل من التقدّم الذي يبرز من خلال تفعيل صندوق الخسارة والتعويض الذي أقرّ في المؤتمر السابق والذي يوظف الأموال من قِبَل الدول الغنية للحدّ من المفاعيل السلبية للتغيّر المناخي. وتعهّدت حكومات وشركات ومستثمرون ومؤسسات خيرية، خلال الأيام الأربعة الأولى من المؤتمر الذي انطلق في 30 تشرين الثاني ويستمر حتى 12 كانون الأول، بتقديم نحو 57 مليار دولار لمعالجة الخسائر والأضرار الناجمة عن انعكاسات تغيّر المناخ. وعلى أمل جمع المزيد من الدعم، رأى وزير الصناعة والتكنولوجيا المتقدّمة في الإمارات ورئيس النسخة الحالية من المؤتمر سلطان أحمد الجابر، أن “رئاسة المؤتمر تحرص على ضمان التكاتف وتضافر جهود كافة الأطراف لإنجاز التقدم الجوهري والنقلة النوعية المنشودة في العمل المناخي بالتزامن مع تحقيق نمو اقتصادي مستدام يحتوي الجميع”.
وجزء أساسي من عملية تحقيق هذا النمو، يأتي عبر توفير أمن الطاقة والأمن الغذائي، وهو ما يستدعي “توافر الشبكات القوية والتمويل والمعرفة، لإرضاء المجتمعات الضعيفة المتضررة من تغير المناخ”، وفق ما أكّده المدير العام للوكالة الدولية للطاقة المتجددة، فرانشيسكو لاكاميرا، الذي بيَّنَ أن “نحو 12 بالمئة من المراكز الصحية في جنوب آسيا و15 بالمئة من مثيلاتها في افريقيا، تفتقد للكهرباء”، في حين أن “30 بالمئة من الطاقة في العالم تشمل عمليات الزراعة التي يعيش عليها نحو 2.5 مليار شخص”.
وللبدء في تحقيق الأهداف، على الدول والمؤسسات بحث الخيارات المتاحة لمعالجة سلبيات الاعتماد على الطاقة الأحفورية، وهذا ما يستدعي أولاً البحث مع شركات النفط العالمية ثم كبريات شركات انتاج السلع التي تملك مصانعَ ملوِّثة للغلاف الجوّي والتربة والمياه. ففي جعبة تلك الجهات، موازنات مالية ضخمة تتخطّى قيمة موازنات بعض الدول، ولهذا تُعتَبَر الأكثر تأثيراً في خفض الانبعاثات والتلوّث.
يقلِّل مهندس وخبير النفط محمود الجمّال، مستوى تفاؤله من التزام الحكومات والشركات بما قد يُقَرّ من توصيات في النسخة الـ28 من مؤتمر المناخ، على غرار عدم الالتزام الجدّي بمقرّرات المؤتمرات السابقة. وبحسب ما يقوله لـ”المدن”، فإن “الاعتماد على مصادر الطاقة غير المتجددة فيه ربح مالي أكبر للشركات، أما الاعتماد على المصادر المتجدّدة فليس من مصلحة الشركات، وخصوصاً شركات النفط، لأن ذلك يعني تقليص استهلاك البترول وبيعه”. وينفي الجمّال امكانية الوصول إلى صفر اعتماد على البترول في إنتاج الطاقة، إلاّ انه “يمكن خفض استعماله وتخفيف التلوّث الناتج عنه. وكلّ شيء يمكن تنفيذه من ناحية تقنية، لكنه سيكون مكلفاً جداً”.
ويشرح الجمّال كيفية حصول التلوّث في قطاع البترول نتيجة الاحتراق الناتج عن عملية الاستخراج. فعملية استخراج النفط والغاز تنطوي على “اشتعال كميات فائضة من المواد المستخرجة، وهذا ما ينتشر في الهواء”. ولحلّ هذه المشكلة “على الشركات تجهيز بنى تحتية تستوعب الكميات الفائضة بدل حرقها في الهواء”. وقد يكون تركيب “الفلاتر” حلاّ عملياً وإن كان مكلفاً للشركات “فعليها تحمّل مسؤولياتها في هذا المجال”.
المعامل اللبنانية تساهم بالتلويث
كما يغيب التزام الكثير من الدول بالمعايير العالمية للحد من التلوّث، لا يلتزم لبنان كذلك. فالكثير من المصانع والمعامل في مختلف القطاعات، تحرّر نفسها من الالتزامات الصحية والبيئية. يدعمها في ذلك، الفساد المستمر في البلاد. فالدولة نفسها لا تلتزم المعايير، وقطاع الكهرباء يبقى شاهداً على ذلك، إذ يشبه “الحالة المترهّلة للدولة”، وفق توصيف المهندس الكهربائي والمتابع لملف الطاقة في لبنان، يحيى مولود، الذي يلخّص أزمة التلوّث الناتج عن قطاع الطاقة، عبر قسمة معامل إنتاج الكهرباء الحالية إلى 3 فئات، الأولى هي “عدم الاعتماد على الغاز في معمليّ دير عمار والزهراني، مع انهما مصمّمان للعمل على الغاز. وعوض ذلك، يتم تشغيلهما على الديزل، الأمر الذي يزيد مستويات التلوّث والهدر المالي”. والفئة الثانية هي “استمرار تشغيل معمليّ الجية والزوق القديمين، ما يزيد الانبعاثات والكلفة المالية لإنتاج الكهرباء”. فيما الفئة الثانية هي “الإتيان أحياناً بفيول غير مطابق للمواصفات الدولية، وتضخّه في معمليّ الجية والزوق الجديدين”. ويلفت مولود النظر إلى أن الحالة العامة للمعملين الجديدين، جيّدة حتى الآن، وهذا هو السياق المستمر منذ العام 2017″.
على الدولة ووزارة الطاقة مسؤوليات كثيرة في هذا المجال، بالنسبة إلى مولود، إذ “لا يوجد سياسة فعلية لتشجيع الناس والشركات على الاعتماد على الطاقة المتجددة”. كما أنه تغيب رؤية الدولة عن كيفية إدارة الأزمة التي ستتكشّف مع الوقت، فبفعل أزمة الكهرباء، اتجه الناس نحو الطاقة الشمسية، ومع الوقت ستظهر ثغرة “تتعلّق بكيفية تلف ألواح الطاقة والبطاريات. والتخلص منها عشوائياً مكلف مادياً وبيئياً”.
يحلم لبنان كما دول العالم بالطاقة المتجددة. لكن يبدو أن الحلم مرتبط بوعودٍ ينسفها الربح المادي الذي يؤدي إلى غض الطرف عن الإصلاحات، فيبدو مشروع التخلّص من التلوّث ضرباً من الخيال مع مزاجية التطبيق الدولي، وضرباً من الوهم في لبنان الذي يهلِّل لمكافحة التلوّث والانتقال نحو الطاقة البديلة، وهو الغارق بشبر ماء ولا يستطيع إدارة أزمته الاقتصادية والسياسية.