على نحو مفاجئ، باتت الفكرة على كل لسان. في مصرف لبنان، ثمّة من يدرس المشروع تمهيدًا لدسّه بدراسة مفصّلة في خطّة الحكومة الماليّة. وفي لجنة المال والموازنة، بات هناك من يطلب من زملائه التريّث بانتظار ضم الفكرة إلى الخطّة الماليّة، قبل الشروع بالبحث في القوانين المتعلّقة بمستقبل المصارف. إنها فكرة سحريّة، ولدت فجأة من العدم. بإمكانها أن تردم فجوة الخسائر المصرفيّة، وتعالج مشكلة الودائع، التي يحار في أمرها صنّاع القرار. هي معجزة، كتلك التي نسمع عنها في الكتب السماويّة: يمكن للمشروع أن “يعيد تكوين” الودائع، تمامًا كما يقول الشعار الممجوج الذي تمسّك به نوّاب المصارف على مرّ السنوات الأربع الماضية. “إعادة تكوين” الودائع ممكن، بلا توزيع خسائر ولا إعادة هيكلة معتبرة. هكذا تقول المصارف، وهكذا تقول الفكرة الجديدة!
حين تسمع في عالم المال عن سحر أو إعجاز ما، إبحث عن القطبة المخفيّة، أو عن الخدعة، أو بصورة أوضح: عن من سيدفع الثمن. فإذا كانت البشريّة قد تخطّت زمن المعجزات التي تحيي العظام وهي رميم، كما في حكاية أهل الكهف أو السيّد المسيح، فهي لم تشهد يومًا مشعوذًا يحيي “مصارف زومبي” بخلق القيمة من لا شيء، كما يتوهّم –أو يحاول أن يوهمنا- أصحاب الفكرة الخلّاقة الجديدة.
والبحث عن القطبة المخفية، يصبح واجبًا إذا ما عرفنا أن العقل الخلّاق الذي أتى بالفكرة لم يكن سوى إستشاريّة ماليّة تعمل في أكبر “المصارف الزومبي” اللبنانيّة نفسها.
فكرة السندات الصفريّة
إذا كانت السيولة الموجودة في النظام المصرفي، بما فيه احتياطات مصرف لبنان، تكفي لسداد الودائع لغاية 100 ألف دولار لكل وديعة، كما تقول خطّة الحكومة، فالسؤال الأساسي هو: ماذا نفعل بسائر الودائع، التي تتجاوز حد 100 ألف لكل وديعة؟ كيف نردم هذه الفجوة، ما بين قيمة السيولة الموجودة فعلًا، وقيمة الإلتزامات المتوجّبة على المصارف؟
حسنًا، تقول الفكرة الآتي: سنعطي أصحاب الودائع التي تتجاوز قيمتها 100 ألف دولار سندات صفريّة، أي أوراق ماليّة يمكن تداولها، من دون أن تنتج فوائد، وبقيمة الوديعة الأساسيّة. وستحمل هذه السندات “وعدًا” لصاحب الوديعة، يقضي بسداد قيمة وديعته بعد 30 أو 40 سنة، إذا كان حيًا يُرزق في ذلك الوقت. بالنسبة لك كمودع، هذا ما كل ما ستحصّله اليوم. السؤال الآن: ما هي قيمة هذا السند القابل للتداول اليوم؟ وما هي ضمانة سداده بعد 30 أو 40 سنة، إذا ظلّ المودع (أو المشروع نفسه) على قيد الحياة بعد هذه المدّة الزمنيّة؟ هنا ننتقل للجانب الآخر من المشروع.
في الوقت الراهن، ستشتري الحكومة (كيف؟ من أي مال عام؟) منتجات ماليّة استثماريّة من الأسواق الدوليّة، وبقيمة توازي نحو 15% من قيمة هذه السندات. وخلال 30 أو 40 سنة، يُفترض أن تتراكم الفوائد والعوائد تدريجيًا، لتكوّن نسبة 100% من قيمة السندات الصفريّة، التي يعد المشروع صاحب الوديعة بتسديدها. حتّى ذلك الوقت، بإمكان صاحب الوديعة بيع السند الصفري في السوق المفتوحة. وكما هو واضح: ستكون قيمة السند الصفري 15% من قيمة الوديعة، في المرحلة الأولى، بانتظار الاقتراب من تاريخ استحقاق السند.
ماذا لو انخفض الطلب على هذه السندات؟ وماذا لو تعرّضت الاستثمارات في الخارج لمخاطر غير متوقّعة خلال العقود المقبلة؟ وماذا لو تعرّضت الاستثمارات لخسائر غير مرتقبة؟ ستنخفض قيمة السند، أو الوعد. أنت كصاحب وديعة، أصبحت مستثمراً، باستثمار بدأت قيمته بـ 15% من قيمة الوديعة.
ما هي قيمة السيولة التي ستحتاجها الحكومة لتأمين الاستثمارات في الخارج، التي تضمن هذه السندات؟ إذا افترضنا أنّ الفكرة يفترض أن تردم فجوة الخسائر، كما يعد أصحاب الطرح، أي أن تسدد ودائع بقيمة 73 مليار دولار، فستحتاج الحكومة اليوم إلى 11 مليار دولار. هذا المبلغ، هو تحديدًا الـ15% من قيمة هذه الودائع، التي يفترض أن تكوّن استثمارات خارجيّة، لتؤمّن تسديد السند بعد 30 أو 40 سنة (مجددًا، إذا ظلّ المودع أو المشروع على قيد الحياة حتّى ذلك الوقت).
ماذا لو فشلت الحكومة في تأمين هذا المبلغ، بعد تحويل الودائع إلى سندات صفريّة؟ سيبقى المودع حاملًا لسندات صفريّة، بلا أي استثمار يضمن تسديد وديعته، لا اليوم ولا بعد 30 أو 40 أو 100 سنة. ولن يجد حتمًا من يشتري هذه السندات الصفريّة البائسة، ولو بـ1% من قيمتها الإسميّة.
التحايل لشطب الودائع
لنفترض للحظة أن الحكومة ستتمكّن من تأمين المليارات الـ11، لشراء الاستثمارات الخارجيّة اليوم، مقابل إعطاء المودعين سندات بقيمة 73 مليار دولار، ومن ثم تسديد السندات بعد 30 أو 40 سنة…حتّى مع هذا الافتراض: ستبقى الفكرة مجرّد حيلة لشطب الودائع.
لنشرح المسألة بصورة واضحة: بالنسبة للمودع، الفكرة لا تختلف كثيرًا عن تنفيذ “هيركات” شامل على الودائع بنسبة 85% اليوم، مقابل أن يشتري المودع لاحقًا استثمارات بالـ15% المتبقية، لإعادة تكوين وديعته خلال العقود الأربعة المقبلة. وهي لا تختلف عن بيع الوديعة كشيك مصرفي في السوق السوداء، في هذه اللحظة بالذات، ومن ثم استعمال السيولة لشراء منتجات ماليّة في الخارج، بما يعيد تكوين الوديعة خلال السنوات الـ40 المقبلة. الفكرة المطروحة عمليًا هي: هيركات اليوم، ثم تراكم فوائد، مع مخاطر الاستثمار في الخارج، على مرّ العقود الأربعة المقبلة.
طالب إدارة أعمال، في سنته الجامعيّة الأولى، يدرك أن سندًا أو وعدًا بدفع 100 دولار بعد 40 سنة، لا يُباع اليوم إلا بنسبة ضئيلة جدًا من هذا المبلغ، بعد الأخذ بالاعتبار نسبة الفوائد التي يفترض أن تتراكم خلال هذه المدّة. هذا هو مبدأ “القيمة الآنيّة” للتدفقّات الماليّة المستقبليّة. لذلك، حين تعد المودع بسداد مبلغ ما بعد 40 سنة، فأنت تعطيه 15% من وديعته اليوم، وهي تمامًا قيمة الاستثمارات التي ستشتريها الحكومة!
فكرة كارثيّة على المال العام والمودع
في خلاصة هذا المشروع، سيكون لبنان قد نفّذ شطب شامل على الودائع، بنسبة 85%، من دون الأخذ بالاعتبار مصدر الوديعة أو حجمها، أو حتّى إمكانيّة أن يكون المودع مؤسسة ذات قيمة اجتماعيّة، مثل صناديق التعاضد النقابيّة. وسيكون المشروع قد حمّل المودع مخاطر الاستثمار في الخارج، رغمًا عن إرادته، إلا إذا أراد بيع السند بنسبة 15% من القيمة الإسميّة اليوم. أمّا الأهم، فهو أن المودع سيتحمّل مخاطر الدولة اللبنانيّة، التي قد لا تتمكّن من تأمين المليارات الـ11 الموعودة، لتنفيذ المشروع. بل في واقع الأمر، السيناريو المرجّح هنا هو تحويل الودائع إلى سندات صفريّة، من دون تأمين الـ11 مليار دولار الموعودة، بالنظر إلى إفلاس الدولة الراهن، ما يعني تحويل الوديعة إلى سندات لا قيمة لها.
أمّا من ناحية دافعي الضرائب، فعلى اللبنانيين أن يعرفوا أن هذا المشروع سيحاول تحميل مالهم العام، أي مالهم، كلفة إنقاذ المصارف. فالمليارات الـ11 التي ستسددها الدولة اليوم –إذا تم تأمينها- ستوازي كامل قيمة فجوة الخسائر المصرفيّة بعد 4 عقود، بعد استثمارها، وهي تضحية سيتحمّلها عموم الشعب اللبناني لتعويم القطاع المتعثّر. طبعًا، يمكن للبنانيين هنا السؤال عن ما كان يمكن تنفيذه من مشاريع محليّة بهذه المليارات، بدل استعمالها لتسديد إلتزامات المصارف للمودعين، وخصوصًا في ظل تهالك البنية التحتيّة وأنظمة الحماية الاجتماعيّة.
ما هو هدف المشروع المطروح؟ نعود إلى هويّة من طرحه: استشاريّة ماليّة معروفة تعمل لدى أكبر مصرف لبناني متعثّر. الهدف هنا، مشابه لهدف عرقلة إعادة هيكلة القطاع المصرفي، وهو تحميل المودع والمال العام –معًا- كلفة الخسائر المصرفيّة، بدل الشروع بعمليّة إعادة رسملة شاملة للقطاع المصرفي، بعد شطب رساميل أصحاب المصارف الحاليين. ببساطة، ممنوع المس بملكيّة أصحاب المصارف لمصارفهم، وممنوع تحميل رساميلهم نصيبها من الخسائر. أمّا الأهم بالنسبة لهؤلاء، فهو الحؤول دون فتح الدفاتر وتدقيق الحسابات، لمعرفة مصدر الخسائر المتراكمة، ومن ثم توزيعها على هذا الأساس.