الصمت المخيّم على مسألة طرح الدين المترتب على الدولة اللبنانية لحاملي سندات الـ»يوروبوندز» على طاولة البحث، لم يخرقه اقتراب أجل المهلة الممنوحة للدائنين لبدء رفع الدعاوى على الدولة اللبنانية لتسديد الفوائد المترتبة عليها والمستحقة من الدين، والتي تبدأ في آذار 2025 أو حتى قبلها.
فلا وزارة المال المعنية مباشرة بهذا الملف على دراية بما يمكن أن يتمّ طرحه من قبل الدولة اللبنانية المتخلّفة عن الدفع منذ آذار 2020، ولا رئاسة الحكومة تفكّر في الإعداد لخطة تفاوضية إستباقية.
حتى أن وفد صندوق النقد الذي كان في لبنان منذ أسبوع برئاسة إرنستو راميريز ريغو، والذي عرّج من ضمن الحوارات التي أجراها مع المسؤولين في الدولة اللبنانية على مسألة سندات الـ»يوروبوندز» والدين المترتب على الدولة والبالغ 31,31 مليار دولار من دون احتساب الفوائد، لا يرى إمكانية للدولة اللبنانية حالياً لبدء التفاوض مع الدائنين.
رأي صندوق النقد الدولي
بالنسبة الى صندوق النقد الدولي كما علمت «نداء الوطن» إن الدولة اللبنانية غير قادرة اليوم على فتح باب التفاوض مع الدائنين، إذ ليس بحوزتها أي ورقة لتفاوض بها وأي ضمانة لاستدامة تسديدها مترتبات الدين.
من هنا بدا صندوق النقد الدولي واثقاً في ظلّ ضبابية الرؤية والتشاؤم المخيّمين على إنجاز الإصلاحات المطلوبة، وأن لبنان سيكون على موعد مع دعاوى سترفع ضده في العام 2025 وذلك لضمان حقّ الدائنين في المطالبة بالفوائد التي تستحق بعد 5 سنوات على إعلان الدولة التخلّف عن الدين.
ولا تبدّد الحكومة تلك المشهدية ولم ترسم أي استراتيجية إستباقية باعتبار ان الإتفاق مع الدائنين كما أكّد مصدر حكومي لـ»نداء الوطن» كان يقوم على بدء التفاوض مع أصحاب السندات بعد توقيع الحكومة اللبنانية الإتفاق مع صندوق النقد الدولي ليُبنى على الشيء مقتضاه. وبالتالي، ولمّا أجرى نائب رئيس الحكومة سعادة الشامي وقتها اتصالاً معهم رفضوا بدء التفاوض قبل توقيع الإتفاق مع الصندوق والذي لم ير النور ولن يرى النور أقلّه في الأمد المنظور.
وبالتالي الحكومة اللبنانية إستناداً الى المصدر نفسه على ثقة أن الدائنين لا يريدون التفاوض مع الحكومة اللبنانية للأسباب التالية:
أولا، كما ذكرنا سابقاً لم يحصل إتفاق مع صندوق النقد الدولي، وبالتالي لا ضمانات لتسديد الدين.
ثانياً، تراجعت قيمة الأسهم من 100% الى 6% أي بسعر يبلغ نحو 6,36 سنتات للسند حالياً، وبالتالي لا احد من الدائنين يرغب في التفاوض بشأن تسديد الدين، ويفضّل الانتظار ليتحسّن وضع البلد الإقتصادي أو توقيع إتفاق مع صندوق النقد الدولي وأن يرتفع السعر من 6 سنتات الى 25 سنتاً على سبيل المثال، وهذا الرقم ورد في الخطة الإقتصادية التي أعدتها الحكومة.
وفي الخلاصة، إن الدائنين من وجهة نظر المصدر نفسه في الحكومة ليسوا على عجلة من أمرهم للتفاوض مع الحكومة اللبنانية حول كيفية تسديد دينها في الوقت الراهن. وليسوا على عجلة لرفع دعاوى وتحصيل دين لسندات بقيمة 6 سنتات.
فالحكومة لا تخشى بدء رحلة رفع الدعاوى عليها، وعندما يُطرح الموضوع على طاولة البحث والتفاوض، حينها «الله بيفرجا» ويبنى على الشيء مقتضاه لأن الحكومة اللبنانية على ثقة أن الدائنين «مش مستعجلين للتفاوض» في ظل سعر السند المنخفض، ولن يبيعوا تلك السندات الى الحكومة حالياً وهو أحد الطروحات التي يقدّمها الإقتصاديون كحلول لمسألة سندات الـ»يوروبوندز».
ما سبب ارتفاع أسعار السندات؟في ظلّ صمت الحكومة اللبنانية المخيّم وبانتظار أن يجري صندوق النقد الدولي إستقصاءاته حول ما اذا كان أفضل للدولة اللبنانية من الناحية القانونية المباشرة بالتفاوض مع الدائنين قبل آذار 2025 أو بعده، تحوّلت الأنظار في اليومين الماضيين الى تحرّك سعر سندات الـ»يوروبوندز» الذي ارتفع بشكل زهيد بنسبة 0.32% من نحو 6 سنتات للسند الى 6,36 سنتات أو 6,45، ما أثار تساؤلات حول سبب هذا الإرتفاع وما إذا كان ذلك مؤشراً الى أن هناك طلباً على شراء السندات اللبنانية.
لا جواب شافياً ومحدّداً لسبب هذا «التذبذب» في الأسعار، كي لا نقول الإرتفاع الزهيد لسندات الـ»يوروبوندز» اللبنانية وإنما مفاد الترجيحات يقوم على التالي:
بالدرجة الأولى، «تحسّن أسعار السندات عموماً في العالم نتيجة تراجع التضخّم العالمي» كما قال وزير الدولة الأسبق لشؤون تكنولوجيا المعلومات والخبير المصرفي عادل أفيوني، ولا سيّما سندات الدين، فلحق لبنان «طرطوشة» ولكن بنسبة ضئيلة جداً تعتبر الأدنى بالنسبة الى سائر الدول.
بالدرجة الثانية، قد تقوم بعض صناديق الاستثمار الأجنبية التي تمتلك بالفعل سندات دولية لبنانية يبلغ مجموعها حوالى 17 مليار دولار كما جاء في تقرير «بلوم بنك إنفست (مثل «أشمور» وبلاك روك على سبيل المثال لا الحصر) بشراء المزيد من سندات اليورو من أجل زيادة ما تملكه ومن ثم رفع دعوى قضائية ضد الدولة اللبنانية مع اقتراب موعد استحقاق تسديد الفوائد وحلول موعد بدء رفع الدعاوى.
وبالدرجة الثالثة، إمكانية تحرّك صناديق الـvulture fund المعروفة بالإنتهازية أو بالصقور نحو شراء بعض من تلك السندات نظراً الى سعرها المنخفض إستناداً الى المصدر الحكومي نفسه. فلو فعلاً هناك طلب على شراء سندات الـ»يوروبوندز» اللبنانية وحصلت تداولات كبيرة لكان سعرها ارتفع بشكل ملحوظ الى 20 أو 25 سنتاً وليس بنسبة 0.32% كما ورد في نشرة «بلوم بنك انفست».
صناديق الـvulture Fund
والصناديق الإنتهازية أو صناديق الصقور التي تغزو الدول الفقيرة المتخلّفة عن دفع ديونها، متواجدة في كل دول العالم. ويقوم عملها على شراء السندات أو الديون المتعثّرة من الدول المتخلفة عن الدفع بأسعار منخفضة وتسعى لتحقيق أرباح كبيرة من خلال إعادة هيكلة الديون، أو القيام بالإجراءات القانونية لتحصيل الديون أو اعتماد سياسة الإنتظار لتحسّن أوضاع البلاد الإقتصادية. بالنسبة الى لبنان يمكنها مثلاً أن تشتري السندات بنسبة 6% من قيمتها وعندما يتحسّن الوضع ويرتفع سعرها يتمّ بيعها بنسبة 25% وتسجّل الصناديق ارباحاً بنسبة 400%.
وأبرز تلك الصناديق الإنتهازية المعروفة عالمياً نذكر Oaktree Capital Management و Aurelius Capital Management: و Cerberus Capital Management وFortress Investment Group، علماً أنه تثير جدلاً حول دورها الإنتهازي ضد الدول الفقيرة بهدف تحقيق أرباح.
والمعادلة تلك شبيهة بالقطاع العقاري، فإذا حصلت حركة شراء كبيرة ترتفع الأسعار، علماً أن هناك مستثمرين يعتمدون سياسة إستغلال فرصة تراجع الأسعار لشراء عقارات وشقق في الأزمات بسعر منخفض وينامون عليها لحين تحسّن أوضاع البلاد وارتفاع سعرها السوقي وبيعها بسعر أعلى وتحقيق أرباح.
معالجة الخلل المالي والمصرفي ثم الـ»يوروبوندز»
وبالعودة الى تحرّك اسعار السندات، يعتبر رئيس لجنة الرقابة السابق على المصارف سمير حمّود خلال حديثه الى «نداء الوطن» أنه «لا يجب التوقف عند تحسّن سعر سند الـ»يوروبوندز» من 6 الى 8 ومن 8 الى 9 أو 10 سنتات، فلبنان لا يزال في مرحلة الإخلال بسداد الدين، وبالتالي يجب معالجة الخلل والبدء بإصلاح الوضعين المالي والمصرفي». من هنا يضيف «لا يمكن التحدّث عن إعادة برمجة تسديد سندات الـ»يوروبوندز» إذا لم تكن الصورة بأكملها واضحة أمام الحكومة».
ويبدأ وضوح تلك الصورة من مؤشرات الوضع المالي، العجز الموجود في ميزان المدفوعات، معالجة أوضاع المودعين في ما يتعلّق بودائعهم وإصلاح القطاع المصرفي، بعدها يأتي دور معالجة مسألة الديون المستحقة على الدولة من خلال سندات الـ»يوروبوندز». إذ لا يمكن الخروج الى العالم الخارجي والتفاوض مع الدائنين قبل أن تتّضح الصورة في الداخل ومعرفة الى أين يتّجه البلد خلال فترة معينة من الزمن، فعلى أساس تلك الصورة يمكن البدء بإعادة الهيكلة. فالأرقام لا تعني شيئاً اذا لم تستند الى فرضيات مقبولة ومعقولة ومفهومة للغير».
وفي هذا السياق شدّد حمّود على أن سندات الـ»يوروبوندز» تعتبر التزامات على الدولة. أما الذهب فهو موجودات للدولة». وبرأيه إن «الإلتزامات المترتبة على الدولة يجب ألا تكون قابلة للهيركات أي للإقتطاع، باعتبار أن المدين المحترم دينه يسدّده من دون تسويات. أما الموجودات التي لديه مثل الذهب فهي تعزّز مكانته المالية لمخاطبة الدائن والمواطن في معالجة الأزمة الموجودة. من هنا يجب الإستفادة من ارتفاع اسعار الذهب لتعزيز موجودات مصرف لبنان، ومن وجود حركة على سندات الدين الموجودة في الخارج. ما يعطي حوافز لوضع خطة حقيقية تتعاطى مع معالجة دين الدولة وفجوة مصرف لبنان والفجوة التي كبرت في القطاع المصرفي والمصارف. فلا يمكن ترك المودع الحلقة الضعيفة ويجب مخاطبته بأمواله وإيداعاته وأتعابه التي كان يعوّل عليها في معيشته وشيخوخته وتأمين مستقبل ابنائه».
العائد على السندات لخمس وعشر سنوات
إلى ذلك لا بدّ من الإشارة كما جاء في تقرير «بلوم بنك إنفست» الى أن العائد على سندات الـ»يوروبوندز» اللبنانية لأجل خمس سنوات إرتفع بشكل طفيف بمقدار 5 نقاط أساس ليصل إلى 103.55%، في حين انخفض العائد على سندات اليوروبوندز اللبنانية لعشر سنوات بمقدار 50 نقطة أساس ليصل إلى 100.45% في الأسبوع المنتهي في 30 أيار 2024 مقارنة بالفترة ذاتها من العام الماضي.
إذا صحّت تلك الآراء أو الإستخلاصات بعدم إمكانية التفاوض حالياً مع الدائنين بانتظار إشهارهم سيف الدعاوى على الحكومة اللبنانية، لمَ لا تخرج الحكومة الى العلن وتصارح اللبنانيين بشأن تلك المعضلة وتوضح الصورة للمواطنين بدلاً من التخبّط في بحر التأويلات والتقديرات؟ الجواب على هذا السؤال أن الحكومة نفسها لا تعرف كيف ستعالج ذلك الموضوع وليست على دراية بما ينتظرها العام المقبل، بل تنهي ذلك الموضوع بالقول «الدائنون لا يريدون التفاوض مع لبنان، وإذا أرادوا رفع دعاوى عندها نجلس الى طاولة المفاوضات».