تنشر “المدن” سلسلة مقالات تلخّص مقتطفات من دراسة “عمليّة البيع العظيم”، التي نشرها مركز “تراينغل”. تكشف الدراسة عن خبايا مرحلة توقّف لبنان عن سداد ديونه السياديّة، وما سبقها ورافقها وتلاها من ألاعيب وأدوار مشبوهة قام بها مصرفيّون وسياسيّون ومسؤولون ماليّون كبار. في هذا المقال، تستكمل “المدن” نشر الوقائع المتصلة بأواخر أيام حكومة الحريري، في مرحلة تصريف الأعمال، وبدايات مرحلة حكومة دياب، التي اتخذت قرار الامتناع عن دفع السندات.
الحريري أصرّ…وسلامة دعم
كان من المفترض أن تستحق في 27 تشرين الثاني 2019 شريحة من سندات اليوروبوند، بقيمة 1.5 مليون دولار، بالإضافة إلى دفعة من الفوائد بقيمة 632 مليون دولار. أصرّ كميل أبو سليمان، الوزير السابق في حكومة الحريري التي كانت تصرّف الأعمال بعد استقالتها، على إعادة جدولة هذه السندات وعدم دفعها، بالتفاهم مع الدائنين، نظرًا لمرور البلاد بأزمة أدّت إلى تعثّر القطاع المالي بأسره، ناهيك عن عجز الدولة عن الاقتراض من الأسواق الدوليّة. باختصار، رأى أبو سليمان، ومن خبرته في مجال عمله السابق في أسواق المال العالميّة، أن دفع السندات والفوائد سيكون مجرّد هدر للعملات الأجنبيّة المتوفّرة في مصرف لبنان، في الوقت التي يُفترض أن تتم عمليّة التفاوض على استحقاقات الديون كما يفعل في العادة المدينون المتعثّرون، كالدولة اللبنانيّة. مع الإشارة إلى أنّ هذا الاستحقاق كان سيليه سلسلة من الاستحقاقات المماثلة، ما سيعني إدخال الدولة في دوامة تبديد عبثيّة للاحتياطات، بغياب خطّة لإعادة التوازن المالي والنقدي.
كان كل ما يقوله أبو سليمان مطابق في تلك المرحلة لقواعد تداول سندات الدين، خصوصًا في الحالات التي يبلغ فيها الدين مرحلة عدم الاستدامة، أي عدم قدرة المدين على التعامل معه على المدى المتوسّط. إلا أنّ الحريري – رئيس حكومة تصريف الأعمال- أشهر الفيتو في وجه عمليّة إعادة جدولة السندات، بحجّة عدم رغبته بأن يكون أوّل رئيس حكومة يتخذ قرار التخلّف عن دفع ديون البلاد السياديّة، ولو تم ذلك عبر عمليّة إعادة هيكلة منظّمة ومتّفق عليها مع الدائنين.
في واقع الأمر، لم يكن بإمكان الحريري فرض هذا القرار الغريب في تلك الظروف، لولا تضافر جهوده مع جهود حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، الذي انضمّ ليدعم موقف الحريري. هنا، بات دفع السندات والفوائد معًا في شهر تشرين الثاني مسألة مفروغ منها، مع تطابق وجهتي نظر رئيس الحكومة وحاكم مصرف لبنان ودفعهما بهذا الاتجاه.
بلغت كلفة سداد السندات والفوائد يومها نحو 2.13 مليار دولار، ذهبت فورًا إلى خارج البلاد لصالح المصارف والدائنين الأجانب، في الوقت الذي كانت تمارس فيه المصارف اللبنانيّة أقصى القيود التي يمكن فرضها على سحوبات المودعين وتحويلاتهم إلى الخارج. وما إن قبضت المصارف قيمة السندات عند السداد، حتّى تسارعت عمليّات بيع السندات التي تملكها لمصلحة دائنين أجانب آخرين، وتحديدًا من صناديق المضاربات التي تمتهن شراء سندات المدينين المتعثرين –كحال الدولة اللبنانيّة- بأسعار زهيدة لتحصيلها. وكانت عمليّات البيع هذه مجرّد دلالة على إدراك المصارف لاستحالة استمرار الدولة بسداد مستحقاتها على المدى المتوسّط، وهو ما يجعل قرار تسديد سندات استحقاق تشرين الثاني قرارا غير منطقي بجميع المقاييس. وهنا تشير الدراسة إلى أنّ حجم السندات التي جرى بيعها خلال الربع الأوّل من سنة 2020 وحدها بلغ حدود الثلاثة مليار دولار.
عودة أكبر بائعي سندات اليوروبوند
تدخل الدراسة في تفاصيل ميزانيّات المصارف التي تورّطت في عمليّات بيع سندات اليوروبوند للدائنين الأجانب، والتي أدّت إلى نقل الدين العام بالعملات الأجنبيّة لأيدي صناديق لا تملك الدولة قدرة التفاهم معهم محليًّا على عمليّات إعادة الجدولة أو إعادة الهيكلة، بل وربما لأيدي صناديق متخصصة بلي ذراع مدين متعثّر كالدولة اللبنانيّة.
بنك عودة على سبيل المثال امتلك في بدايات عام 2020 محفظة سندات يوروبوند قاربت قيمتها الملياري دولار أميركي. وفي منتصف العام نفسه، بعد موجة عمليّات بيع السندات، كانت قد انخفضت قيمة سندات اليوروبوند التي يملكها المصرف إلى نحو 57 مليون دولار فقط. وبذلك، يمكن القول إن بنك عودة وحده كان مسؤولًا عن ما يقارب 55 بالمئة من قيمة سندات اليوروبوند التي تم بيعها في النصف الأوّل من ذاك العام.
في المقابل، تشير الميزانيّات المصرفيّة إلى أنّ ثمّة مصارف لم تتورّط في هذه العمليّات على الإطلاق، ومنها على سبيل المثال بنك بيبلوس وبنك لبنان والمهجر وبنك الاعتماد اللبناني. هذه المصارف، وفّرت على مودعيها وميزانيّاتها تكبّد نسبة من الخسائر الناتجة عن بيع السندات بأسعار منخفضة لمضاربي الأسواق العالميّة، كما فعل بنك عودة، من أجل تهريب قدر معيّن من السيولة إلى حساباته لدى المصارف المراسلة.
يبقى السؤال الأساسي، لماذا تورّطت المصارف اللبنانيّة في عمليّات بيع السندات بحسومات كبيرة في الأسواق العالميّة، خصوصًا أن هذه العمليّات كبدت ميزانيّاتها، وبالتالي مودعيها، خسائر وازنة؟ الإجابة الوحيدة يمكن تلخيصها بالتالي: سمحت هذه العمليّات للمصارف بقبض ثمن السندات في حساباتها في الخارج، وهي السيولة التي تم استعمالها في عمليّات تهريب الودائع لكبار النافذين والمقرّبين من أصحاب المصارف. وبهذه الطريقة، كان المودعون يتحمّلون تراكم خسائر إضافيّة في الميزانيّات المصرفيّة، في سبيل السماح لحلقة ضيقة من المحظيين بتهريب أموالهم إلى الخارج.
محدودية دياب وتضليل سلامة
دخل الرئيس حسان دياب المشهد في 21 كانون الثاني 2020، بعد أن هدرت البلاد ثلاثة أشهر من الوقت الثمين في الفراغ الحكومي، عوضًا عن العمل على مسألة إعادة هيكلة الديون. وفي تلك اللحظة، لم يكن أمام حكومة دياب سوى ستّة أسابيع من الوقت، قبل أن تقرّر كيفيّة التعامل مع سندات اليوروبوند التي تستحق في شهر آذار. أزمة دياب لم تكن فقط ضيق الوقت قبل الاستحقاق، بل أيضًا ارتفاع نسبة السندات التي يملكها الأجانب، بعد عمليّات البيع التي قامت بها المصارف لصالحهم، وهو ما بات يحول دون تمكين الحكومة من إعادة جدولة أي استحقاق للسندات بتفاهم داخلي.
على أنّ أزمة دياب الأكبر لم تكن هنا، بل كمنت –وبحسب ما نقله مستشاروه لمعدي الدراسة- في محدوديّة إلمامه بالمسائل الاقتصاديّة. تفاجأ الرجل بأن أزمة السندات لم تكن فقط في استحقاق آذار المقبل، بل أيضًا في قيمة دفعات الفائدة التي يُفترض تسديدها كل شهر، والتي تستنزف وحدها مئات ملايين الدولارات في كل دفعة. لا بل كان على دياب أن يتعلّم – وخلال أيام معدودة- كيفيّة عمل الأسواق الدوليّة، وماهيّة سندات الدين وكيفيّة الإتجار بها، وصولًا إلى اكتشافه أنّ سندات “اليوروبوند” لا علاقة لها بعملة “اليورو” نفسها!
أمضى دياب أسابيع وهو يستمع إلى أضاليل رياض سلامة، الذي بذل الكثير من الجهد لإقناعه بأن مصرف لبنان يمتلك ما يكفي من سيولة لإقراض الدولة من أجل تسديد الاستحقاق المقبل في شهر آذار (بقيمة 1.2 مليار دولار)، في الوقت الذي كان على سلامة ودياب معًا التفكير في كيفيّة تأمين الدولارات لاستيراد البنزين والدواء والقمح! ثم بدأ دياب يتردّد في بدء ولايته بتعثّر تاريخي في دفع السندات. أعطى ذلك سلامة دفعًا إضافيًّا لمحاولة الضغط على دياب من أجل عدم الامتناع عن سداد السندات.
لماذا دفع غازي وزني الفوائد؟
لم يفلح سلامة في الاستمرار بتضليل دياب طويلًا، إذ سرعان ما تبيّن لرئيس الحكومة أن ما ينصح به الحاكم أقرب إلى الهذيان بمنطق عمل أسواق المال. اتخذت الحكومة بعدها قرار الامتناع عن دفع السندات والفوائد، لتتفاجأ أن وزير الماليّة غازي وزني قرر – وبقرار منفرد منه – تسديد دفعة من فوائد سندات اليوروبوند، التي قررت الحكومة عدم دفعها! كان قرار تسديد الفوائد، بعد اتخاذ قرار التخلّف عن الدفع رسميًّا، مجرّد هدر عبثي لعشرات ملايين الدولار، وهو ما بدا خطوة غير مفهومة من وزير الماليّة الذي يفهم جيّدًا – بخلاف دياب- آليّات عمل السوق. لم يوضح وزني حتّى اللحظة خلفيّات قراره، ولا طبيعة المستفيدين منه، إلا أنّ الدراسة ترجّح أن تكون لرئيس مجلس النوّاب نبيه بري يد في هذا القرار.
في خلاصة الأمر، ستفيض الدراسة في تفصيل بعض الحوادث التي لم تظهر للرأي العام بعد، بالاستناد إلى مصادر عديدة أبرزها الاستشاريين الذي واكبوا تلك المرحلة. أهميّة الدراسة تكمن في تفصيل بعض الأسباب التي أدّت إلى تعاظم كتلة الخسائر الموجودة في القطاع المصرفي اليوم، والتي يُفترض أن تتم معالجتها خلال المرحلة المقبلة من خلال خطة التعافي المالي. وكما هو معلوم، يُفترض أن يكون تحديد المسؤوليّات، القاعدة الأساسيّة التي يتم الاستناد عليها عند توزيع الخسائر.