خرجت في الأسبوع الماضي النقاشات الحامية المصاحبة لمعظم إجتماعات لجنة الإعلام والإتصالات النيابية من الغرف المغلقة في مجلس النواب، وفقاً لنظامه الداخلي، في “تسريبة” لم يتبناها أحد ممن حضروا الجلسة، أثارت ردود فعل متفاوتة على أكثر من صعيد.
حملت التسريبات إتهاماً مباشراً لمقرر لجنة الاتصالات النائب ياسين ياسين، بتوجهه بطلب “غير قانوني” لداتا المشتركين لدى كل من شركتي الإتصال. وعلى رغم مسارعة وزير الإتصالات جوني القرم لنفي تلقيه مثل هذا الطلب، فقد انتشرت الشائعات حوله كما الريش في الفضاء، فالتقط منها كل طرف الحقيقة التي اختار أن يصدقها، وصولاً الى إستثمار الشائعة أيضاً على المستوى الإعلامي.
يسهم ذلك في حجب النظر عن جوهر النقاشات التي تشهدها لجنة الإتصالات النيابية، وحيويتها التي أبرزت دور الهيئات الرقابية منذ صدور تقرير ديوان المحاسبة حول فضائح مبنيي تاتش “قصابيان” والـ”الباشورة”، الى قراراته المتعلقة بقطاع البريد، وصولاً الى تصدي هيئة الشراء العام لمحاولة تمرير صفقة تلزيم المحفظة الالكترونية لشركة خاصة، وإتفاق الديوان مع هيئة الشراء على ضرورة إلغاء نتائج مزايدة خدمة الرسائل النصية المرسلة عبر التطبيقات أو ما يعرف بالـ A2P عبر شركة تاتش، والإنتهاء بإبطال الديوان لمشروع العقد الذي كانت تنوي هيئة أوجيرو توقيعه مع شركة ستريم ميديا لتقديم خدمة البث التلفزيوني عبر الإنترنت أو ما يعرف بالـOTT.
ملفات عالقة
جميع هذه الملفات لا تزال قيد البحث في جلسات لجنة الإتصالات النيابية، التي تحول بعضها الى إخبارات. وبعد جوجلة للأسئلة التي طرحت حولها وإجابات الوزارة عليها، أبقت اللجنة النقاش مفتوحاً على مضمون الإجابات التي حصلت عليها. لتتوقف تحديداً عند لجوء وزارة الاتصالات في جميع الخدمات التي تقترحها، الى تقديمها عبر طرف ثالث، وهو ما يعتبره نواب متابعون لملفات الإتصال يهدد بتفريغ القطاع من أصوله، ويخفض من القيمة السوقية لشركتي الإتصال، إلى جانب كونه يحمل شبهات بتقديم المصالح الخاصة على المصلحة العامة.
الحملة وفقاً لما بينه مستند أظهر تحريفاً في الطلب المقدم من ياسين لوزارة الإتصالات منذ العام 2023، كان يمكن أن تلعب دورها في تقليب الرأي العام على عمل اللجنة، لولا أن ملف الاتصالات لا يبدو كواحد من أولويات اللبنانيين، رغم ما يمكن أن تخلفه صفقاته المطروحة من تأثير سلبي أو إيجابي على واردات الخزينة، وحتى على نوعية الخدمة التي يتلقاها المواطنون، ومدى مواكبتها لمتطلبات التكنولوجيا وتطوراتها.
ومع ذلك بقي توقيت الحملة مريباً لجهة تزامنها مع جلسة خصصت لمناقشة ملفي A2P والـ OTT تحديداً، قبل أن يتبين أيضاً أنها جاءت مترافقة مع مراجعة قدمتها وزارة الإتصالات أمام ديوان المحاسبة لحثه على الرجوع عن قراره برد طلب تلزيم الخدمة الى شركة “وهمية”. هذا ما عزز الإرتياب بالنسبة لبعض المتابعين، من أن يكون عنوان المعركة التي فتحت بوجه ياسين الذي حوّل الملفين لإخبار أمام الديوان، كان “داتا المشتركين”، إلا أن محركها فعلياً هي صفقة الـOTT.
مراجعة قرار الديوان بشأن شركة ستريم ميديا التي ذكر أنها أبرزت مستندات جديدة تسعى لتغيير التوصيف الذي أعطاه الديوان لها كشركة وهمية، ذكّرت بالمقابل بالمراجعات التي قدمت سابقا على قرار الديوان حول صفقة البريد، والتي جرت المحاولات لترسيتها على Colis Privé التي تبين أيضاً أنها غير مؤهلة، لينتهي الجدل الذي أثير حول هذا الملف الى استمرار شركة ليبان بوست بتسيير شؤون القطاع رغم انتهاء عقدها منذ عام 2015، ومن دون أن يجري حتى الآن أي تعديل على حصة الدولة من مداخيلها وأرباحها. علماً أن ليبان بوست باشرت بفرض رسوم جديدة على المعاملات التي لا تتقاسم إيراداتها مع الدولة.
النقاشات كانت قد تمدّدت سابقاً الى ملف ستارلينك الذي انتهى في لجنة الاتصالات النيابية بإفشال محاولة تمرير تأمين الخدمة عبر خطة للطوارئ، وأيضاً من دون أن يكون هناك بدائل مطروحة رغم مطالبة مجلس الوزراء من وزارة الإتصالات بـ”إعداد الدراسات اللازمة لتنظيم الإطار التجاري لعمل الشركة في لبنان، وفقاً للأصول، وبالتنسيق مع الأجهزة الأمنية والعسكرية المختصة”.
والى ملف المحفظة الإلكترونية التي جمد البحث بها وفقاً لتأكيدات الوزير القرم الأخيرة بعدما كان المطروح أيضاً تلزيمها عبر وسيط يتعاطى بتحويل الأموال، فيما اعتبر تفريغ للقطاع من واحدة من أبرز الخدمات الأساسية التي يمكن لشركات الاتصالات تقديمها، واكتفاء الشركتين بحصة من مداخيل الخدمة التي ستقدمها شركات تحويل الأموال.
وإذا كان ملف الـ A2P قد وصل أخيراً لمرحلة فض العروض التي قدمت بجلسة تلزيم انعقدت في 3 أيلول الماضي، فإن النقاش لا يزال عالقاً أمام تحصيل حقوق الدولة من عقد شركة “تاتش” مع INMOBILES والذي كبّد الخزينة خسائر بنحو 980 ألف دولار وفقا لياسين.
بحسب المعلومات، فإن هذا الملف، وإن لم يطرح بشكل موسع في جلسة لجنة الاتصالات الأخيرة، إلا أنه شكّل واحداً من عوامل تفجيرها، لا سيما بعد ما نقل عن اتهام وجهه القرم الى النائب ياسين بأنه ادعى عليه في النيابة العامة، بينما أكد ياسين أنه قدم إخباراً بهدر المال العام واستغلال النفوذ ولم يدع على الوزير شخصياً.
بين القرم وياسين
قد يظهر هذا النقاش المستمر حول ملفات قطاع الاتصالات، وكأنه مناكفات تعيق المشاريع في القطاع وتمنع تطوره، غير أن تفاصيله تعكس التفاوت في مفهوم إدارة قطاع الاتصالات، بين مدرسة تقدم الربح على الإنتاجية، وأخرى تربط الإنتاجية بالمداخيل وتدعو الى تعزيزها.
وتتوجس الفئة الثانية من محاولة استغلال الضائقة المالية التي يعانيها لبنان لتبرير التخلي عن أصول القطاع، خصوصاً أن معظم الخدمات المقترحة ترتبط بمشاريع مستدامة عقودها ستستمر أعواماً، وربما تتخطى مهلها، كما يحصل عادة، فيما محاولات ترسيتها، على علّاتها تبَرر بالواقع المالي الحالي، والذي يبرز الحاجة لمداخيل فورية، وهذا ما يفتح وفقاً لمتخصصين في القطاع شهية السماسرة، للإنقضاض على الحصة الكبرى من الواردات التي ستؤمنها خدمات أساسية ومطلوبة، بمقابل فتات أرباحها المحققة للخزينة.
وفي اتصال مع “المدن” يشكو الوزير القرم من عرقلة “مقصودة” لمعظم المشاريع التي تقترحها الوزارة، ويتهم النائب ياسين بكونه يشكل رأس حربة هذه الإعاقة، مشيراً الى أنه دعاه أكثر من مرة للقاءات مباشرة مع المعنيين، تسمح له بالإطلاع بشكل أفضل على المعطيات العملية المتوفرة في إطلاق أي فكرة تلزيم، ليبني قراره على أساسها. إلا انه، وفقاً لياسين، لا خلفيات شخصية لديه تجاه وزير الإتصالات، وعليه ان يقنع أولاً الهيئات الرقابية سواء أكانت نيابية او قضائية. وبالتالي يؤكد ياسين بأن النقاش الوحيد المقبول بالنسبة له هو ذلك الذي يجري في لجنة الإتصالات والذي يصر على إشراك زملائه بمضمونه.
أما المقاربات المختلفة للملفات، فتبقى وفقاً لمن يطرحونها برسم الهيئات الرقابية، سواء عبر هيئة الشراء العام أو ديوان محاسبة، وما يظهرانه في ملف الإتصالات تحديداً من جدية في مذاكرة الملفات، ليشكلا بتوصياتهما أو قراراتهما الفيصل الذي يحتكم إليه.