بإمكان اللبنانيين كثيري الأسفار أن يستبشروا خيراً بخدمة “رومينغ” جديدة ومميّزة، سيقدّمها قطاع الاتصالات الخليويّة في لبنان بالشراكة مع شركة Wonet السويسريّة. وهي خدمة من المفترض أن تكون متوفّرة للمشتركين في شبكتي الخلوي خلال أقل من أسبوعين من الآن. ببساطة، ومقابل 25$ فقط، سيكون بإمكان المسافرين في الخارج الاتصال بالمشتركين في لبنان، واستعمال باقات الإنترنت، بالكلفة نفسها التي كانت ستترتّب عليهم لو كانوا على الأراضي اللبنانيّة. والخدمة المقدّمة، ستكون واحدة من خدمات القيمة المضافة، أي تلك التي تقدّمها الشركات الخاصّة، بالشراكة مع قطاع الاتصالات الخليويّة المملوك من الدولة. وستكون حصّة الدولة نصف أرباح الخدمة، فيما تستفيد الشركة السويسريّة من نصف الأرباح الثاني.
أرباح من صحن الدولة أم عوائد إضافيّة؟
من زاوية المستهلك، سيبدو هذا خبراً سعيداً، خصوصاً أنّه يقدّم خيارات بديلة عن الخدمات القائمة حاليّاً، بكلفة أفضل. لكنّ الخبر نفسه أثار زوبعة من الجدل، لجهة أثره على ربحيّة الدولة من قطاع الاتصالات. فالخدمة التي لن تتقاضى الدولة أكثر من نصف أرباحها ليست سوى المنافس – أو بالأحرى البديل- الطبيعي لخدمة الرومينغ التقليديّة، التي تقدّمها اليوم شركتي الخليوي بكلفة اتصالات مرتفعة وشروط أصعب، منها ضرورة توفير تأمين مالي يتراوح بين 500$ و1000$ حسب الشركة المشغّلة. وبالتالي، وحسب المعترضين على صيغة الخدمة الجديدة، فهذه الخدمة ستأكل من صحن أرباح الدولة القائمة حاليّاً، لكن بصيغة مناصفة الأرباح مع الشركة الأجنبيّة. وهو ما يدفع الكثيرين للتساؤل عن سبب اندفاع وزارة الاتصالات إلى عقد اتفاق مع شركة أجنبيّة لتقاسم الأرباح معها، بدل السعي إلى تطوير الخدمة المقدّمة حاليّاً لجعلها أكثر تنافسيّة.
في الواقع، يعزّز هذه الفكرة حقيقة أن الخدمة التقليديّة القائمة الآن، تقوم على صيغة تقاضي الدولة تحويلات من المشغّلين الأجنبيين، مقابل المخابرات الدوليّة التي تجريها الخطوط اللبنانيّة في الخارج. وهو ما يُعد أحد مصادر العملة الصعبة للدولة في ظل الأزمة الحاليّة. أمّا الصيغة الجديدة فتستبدل هذه المداخيل باشتراكات ثابتة يدفعها المشترك محليّاً، مقابل الإستفادة من خدمة الرومينغ.
في المقابل، يُحاجج المتحمّسون للخدمة بأن الشركة الأجنبيّة تملك أساساً شبكة دوليّة واسعة، تمكّنها من تقديم هذا النوع من الخدمات بشكل يفوق قدرة الدولة الحاليّة على تطوير خدمة الرومينغ وخفض كلفتها، خصوصاً أنّ شركة Wonet تعمل حاليّاً في أكثر من 100 دولة في مجالات مماثلة. وحسب وجهة النظر هذه، من شأن تخفيض الكلفة في مجال الرومينغ – بفضل Wonet- أن يوسّع نطاق المستفيدين من هذا النوع من الخدمات إلى درجة كبيرة، وهو ما سيرفع مداخيل الدولة من هذه الخدمات في مرحلة لاحقة، بمعزل عن تخفيض السعر وتقاسم الأرباح مع الشركة الأجنبيّة. كما يحاجج هؤلاء أنّ توسّع المستخدمين في استعمال باقات الإنترنت على هواتفهم لاتصالاتهم (مثل خدمة واتساب) خفّض كثيراً من استعمال خدمات الرومينغ المكلفة في المرحلة الماضية. وهو ما يفرض إيجاد بدائل خلّاقة، وبأسعار أقل، لرفع الطلب على خدمات الرومينغ.
بين وجهتي النظر، يبقى المعيار الوحيد الذي سيحدد إمكانية نجاح وزارة الاتصالات في رفع العوائد، بعد الخدمة الجديدة، هو القدرة على استقطاب مستفيدين جدد من خدمات الرومينغ، لا يستفيدون حاليّاً من خدمة الرومينغ التقليديّة. فإذا فشلت الوزارة في توسيع نطاق هؤلاء المستفيدين، فسيعني ذلك أن الشركة الأجنبيّة قد قاسمت الدولة عوائد خدمات الرومينغ الحاليّة، وفرضت تخفيض السعر. أي أنّها أكلت مع الدولة من الصحن نفسه. وهنا يعود إلى الواجهة مجدّداً الهاجس من ابتعاد جزء كبير من المستخدمين عن هذا النوع من الخدمات كلّياً، بفضل توسّع استعمال واتساب العابر للحدود.
تراجع عوائد الإتصالات
يفتح ملف خدمة Wonet اليوم ملف تراجع عائدات الاتصالات الخليويّة على مصرعيه، وعلاقة ذلك بسياسات الدولة في هذا القطاع. فمنذ 2012، وعلى الرغم من زيادة عدد مشتركي الخليوي بنحو مليون مشترك، تراجعت واردات القطاع بنسبة 10 في المئة، وهو ما يطرح أسئلة كبيرة عن مستقبل القطاع، والأرباح التي يدرّها على الدولة.
فعلى مدى السنوات الماضية، ساد إتجاه عالمي نحو زيادة الاعتماد على باقات الإنترنت عبر الخليوي، وذلك على حساب العوائد التقليديّة، التي تأتي من الاتصالات وخدمات الرسائل النصيّة القصيرة SMS. وفي هذا المجال تحديداً، وبدل مواكبة هذه التطورات عبر الإبتكار وزيادة الاستثمار لتطوير باقات خدمات “الداتا” التي تقدّمها الشركتين المشغّلتين، تعاملت الدولة مع خدمات الخليوي بوصفها ضريبة مقنّعة على المواطن، وبالأخص من خلال أسعار مرتفعة لا تسمح بتطوير استعمال اللبنانيين لهذه الباقات.
أما في مجال الشراكات مع الشركات الخاصّة، عبر خدمات القيمة المضافة، فتم حصر هذا النوع من الشراكات بثلاث شركات (تشكل Wonet حاليّاً الاستثناء الذي خرق هذه المعادلة)، وهو ما حد كثيراً من هامش التنافس والإبتكار في مجال تقديم هذا النوع من الخدمات، كما أبقى أسعار هذه الخدمات عند حدود مرتفعة. والنتيجة أيضاً كانت المزيد من تراجع أرباح القطاع والعوائد التي يؤمّنها للدولة.
بين الاتفاق الإشكالي مع Wonet، والذي ستبيّن الأيام المقبلة أثره على مردود الدولة من خدمات الرومينغ، والمسار الإنحداري لأرباح القطاع منذ 2012، تبقى المسألة الأكيدة أنّ الدولة لم تملك منذ التسعينات استراتيجيّة متكاملة للتعاطي مع القطاع، بما يرفع تنافسيّة خدماته ومردودها، وهو ما لا يتحمّل مسؤوليّته وزير الاتصالات الحالي وحده. لكنّ ذلك يضع عليه مسؤوليّة الشروع بوضع خطّة من هذا النوع، قبل الانخراط في خطوات جديدة ترتّب على القطاع إلتزامات جديدة.