في لحظة التحرير عام 2000 لم يكن صعباً عودة أهالي قرى الجنوب التي كانت تسمّى بالشريط الحدودي. فالكلّ كان توّاقاً لرؤية أرضه وأهله ومحاولة تأسيس حياة جديدة في الجنوب، يعوِّض بها ما فاته خلال سنوات الاحتلال. وبعد ستّ سنوات من التحرير، كانت حرب تموز. عانى الجنوبيون خلالها من تدمير لبذور الحياة الجديدة، لكنّهم استعادوا ما خسروه خلال 33 يوماً من عمر الحرب حينها.
على أنّ حرب “مساندة غزّة” التي أدخَلَت الجنوب في أتون معركة طوفان الأقصى منذ 8 تشرين الأول 2023، لها قراءة مختلفة في عيون الجنوبيين، سيّما التجّار. ذلك أن معطياتها مغايرة لما حدث في العام 2006. أمّا الأمد الطويل للحرب الراهنة، فقد دفعت بعض التّجار إلى حسم خياراتهم وإخراج بضائعهم وتأسيس حياة جديدة خارج الشريط الحدودي. وهذا الأمر يؤسِّس لـ”ضرب اقتصاد المنطقة الحدودية من حاصبيا إلى الناقورة والنبطية”. وفق ما يؤكّده أحد تجّار المفروشات في ميس الجبل، الذي يشير في حديث لـ”المدن”، إلى أن “الكثير من التجّار أسّسوا أعمالهم خارج المنطقة ولن يعودوا ثانية”.
خطوة أبعد من ميس الجبل
انتشرَ يوم أمس مقطع فيديو على وسائل التواصل الاجتماعي (راجع “المدن”)، يظهر قافلة شاحنات تنقل بضائع من قرية ميس الجبل الحدودية. وكثُرَت التحليلات والتأويلات حول معنى ونتائج هذا المشهد.
على المستوى الاقتصادي، هذا المشهد “ليس عادياً، بل هو مؤشِّر خطير جداً للمرحلة الراهنة ولمرحلة ما بعد الحرب”. ويرتكز أحد تجّار ميس الجبل في رؤيته لإخراج التجّار بضائعهم من القرية، من أنّ “ميس ليست كأي قرية حدودية أخرى جرى إخراج أثاث منزلي منها. فالذي شاهدناه ليس أثاثاً منزلياً بل هو بضاعة تجارية باتت خارج المستودعات وصالات العرض”. هذه البضائع، وهي بشكل رئيسي مفروشات وأدوات منزلية وسجّاد “تمدّ التجارة في منطقة جغرافية واسعة تمتدّ باتجاه حاصبيا والنبطية والناقورة وما بينها من قرى. وبالتالي فإن إفراغ مخازن ميس الجبل يعني تقليص حجم البضائع المتوفّرة في المنطقة كلّها. علماً أن بضائع ميس كان تُقصَد من بيروت وصور أيضاً”.
وعليه، فإن قرار إخلاء ميس الجبل تجارياً، يعني إفراغ المنطقة الحدودية من عصبها الاقتصادي، خصوصاً وأن “ميس تُعتبر العاصمة الاقتصادية لمنطقة الشريط الحدودي. فهي قرية كبيرة بتعداد سكان يبلغ نحو 35 ألف نسمة، وفيها أكثر من 30 معرضاً للمفروشات، ناهيك بصالات عرض السجّاد والأدوات المنزلية التي تؤمِّن معيشة عائلات كثيرة في المنطقة وليس فقط من داخل ميس”. ولذلك، يرى التاجر أن “بداية انهيار الاقتصاد في ميس الجبل يعني انهيار الاقتصاد في المنطقة الحدودية”. علماً أن تلك المنطقة كانت قد بدأت بالازدهار بعد التحرير في العام 2000. فعلى سبيل المثال لا الحصر “كان سعر دونم الأرض على الشارع العام في ميس الجبل قبل التحرير، نحو 5000 دولار، وبعد التحرير وصل إلى نحو 150 ألف دولار، وهذا دليل على النشاط الاقتصادي وعلى الحركة في ميس وجوارها”.
استيطان خارج الشريط
حتى وقت قريب، كان الحديث عن بقاء بعض نازحي الجنوب في المناطق التي نزحو إليها، لا يزال فردياً وضمن حلقات مقفلة بين النازحين. لكن قافلة تجّار ميس الجبل أخرَجَت نقاش البقاء خارج منطقة الحدود، إلى العلَن “فالكثير من تجّار ميس الجبل افتتحوا محالاً تجارية خارج المنطقة الحدودية ومعظمهم حَسَمَ خياره بالاستيطان خارج الشريط الحدودي، تجنّباً لأي خسائر أخرى ترتّبها الحروب المستقبلية، في حال توقّفَت الحرب الحالية في وقت قريب. علماً أن المؤشّرات التي التمسناها من حزب الله، تدلّ على أن هذه الحرب طويلة ومستمرة”.
الاقتناع بطول أمد الحرب “دفع التجّار إلى رفع الصوت باتجاه حزب الله لتأمين خروج بضائعهم من المنطقة، فكان التواصل مع الجيش اللبناني وقوات الطوارىء الدولية”. وإذا كانت قيمة البضائع المادية دافعاً قوياً لخروج أصحابها من المنطقة، فإن “القصور والفِلَل الضخمة التي بُنِيَت بين عاميّ 2000 و2023 مروراً بإعادة الإعمار بعد حرب تموز 2006، هي الأخرى أصبحت دافعاً لعدم العودة إلى المنطقة بعد الحرب الحالية. فالأكلاف المادية التي تكتنزها تلك القصور والمباني والمحال التجارية والمعارض وغيرها، تساوي الكثير لدى أصحابها، ليس فقط بقيمتها المادية بل أيضاً بقيمتها المعنوية التي تنطوي على فرحٍ بنجاح الاستثمار وبناء العلاقات التجارية والإنسانية مع أبناء المنطقة ومحيطها… وهذا كلّه دُمِّرَ اليوم”. وهذه الصورة ليست عامة، وإن كانت تعكس رأي الكثير من التجّار حالياً، “فهناك مَن لم يقرِّر عدم العودة إلى المنطقة مستقبلاً، لكن الخيار لن يكون سهلاً مع تأسيس أعمال خارج المنطقة الحدودية. فحتى مَن يقرِّر استئناف عمله في ميس الجبل ومحيطها، لن يقفل ما افتتحه في مناطق أخرى، وبالتالي لن سيكون الوضع مربكاً مستقبلاً”.
تتكامل صورة ميس الجبل اقتصادياً مع صورة الانهيار الاقتصادي العام في لبنان. وهذا ما يجعل الوضع أكثر قتامة لناحية المستقبل الاقتصادي للبنان بعد الحرب، وكذلك مستقبل الجنوب، وبتركيز أكثر، مستقبل المنطقة الحدودية التي جعلها تجّار ميس الجبل تعرف الاقتصاد التجاري من بابه الواسع، في حين كان الاقتصاد هناك يعتمد على الزراعة.