شكّل انفجار مرفأ بيروت في الرابع من آب 2020 ضربةً قاصمة للبنية التحتية اللوجستية في لبنان، ونقطة تحولٍ جوهرية في التوازنات الاقتصادية الإقليمية. أدى الانفجار إلى انخفاض حاد في الأداء التشغيلي للمرفأ، وساهم إلى جانب الإقفال العام جراء جائحة كوفيد-19 في تسريع وتيرة الانهيار المالي. في خضمّ هذه الفوضى، برز دور ميناء حيفا الإسرائيلي كبديل خاصةً لدول الخليج العربي، في مسعى لإعادة رسم خريطة التجارة الإقليمية بريًا عبر مشروع لخطوط السكك الحديدية.
وجدت إسرائيل – التي تعتمد على النقل البحري في حوالي 99% من تجارتها الخارجية – فرصةً سانحة لتعزيز دورها الإقليمي، مستفيدةً من التراجع الحاد في أداء مرفأ بيروت، فإلى جانب تطوير قدرة مينائي حيفا وأشدود، جاء مشروع “قطارات السلام الإقليمي” بمشاركة إماراتية وأردنية.
وفي هذا السياق أيضًا بدأت عملية خصخصة وتوسعة ميناء حيفا، أكبر الموانئ الإسرائيلية. ويبرز هذا التحوّل جلياً من خلال الطاقة الاستيعابية الكبيرة لمينائي حيفا وأشدود، اللذين يستقبلان معاً أكثر من 3 ملايين حاوية نمطية (TEU) سنوياً، فيما أصبحا اليوم مجهّزين لاستقبال نحو 4 ملايين حاوية، في وقت لا يزال ملف انفجار مرفأ بيروت ينتظر الحلول.
مرفأ بيروت: تعافٍ هشّ وبطيء
كان مرفأ بيروت – قبل تدمّره وتوقفه عن العمل في 4 آب 2020 – يتعامل سنويًا، وفقًا لموقعه الرسمي، مع نحو 6 ملايين طن من البضائع وما يقارب مليون حاوية، ويستقبل نحو 3000 باخرة سنويًا. ولم يُسجّل أي حركة للمسافرين والسائحين عبره إلا في عامي 2022 و2023، حيث بلغ عدد المسافرين 784 مسافرًا فقط. بعد بدء عملية الترميم، تعامل المرفأ مع 1890 باخرة في عام 2021، و1867 باخرة في 2022، و1990 باخرة في 2023، و2041 باخرة في 2024، و1534 باخرة خلال الأشهر التسعة الأولى من العام الحالي، مما يدل على تعافٍ بطيء في حركته.
غير أن عدد الحاويات التي تعامل معها المرفأ بعد الانفجار شهد تراجعًا حادًا، ثم تحسنًا تدريجيًا، حيث انخفض من 1229081 عام 2019، إلى أقل من النصف عام 2021 حيث بلغ 480821 حاوية، ثم 568713 حاوية عام 2022، فـ 550237 حاوية عام 2023، فـ 559140 حاوية عام 2024، ثم 464690 حاوية خلال الأشهر التسعة الأولى من العام الحالي، مع تحسن نسبته 10% مقارنة بنفس الفترة من العام السابق. ويبلغ عدد القوى العاملة في مرفأ بيروت نحو 750 عاملًا.
مركزية ميناء حيفا بالنسبة لإسرائيل
شهد ميناء حيفا على مدار السنوات الماضية ارتفاعًا ملحوظًا في حجم التعاملات التجارية، مدعومًا باستثمارات جديدة وتطويرٍ استراتيجي لمرافقه وتوسيعٍ لبنيته التحتية. ويتعامل الميناء سنويًا – وفقًا للأرقام الإسرائيلية الرسمية – مع أكثر من 20 مليون طن من البضائع، ويستقبل حوالي 240 ألف مسافر وسائح، فيما يبلغ عدد القوى العاملة فيه نحو 1000 عامل. ويستحوذ الميناء على 50.3 في المئة من إجمالي الشحنات التي تعبر الموانئ الإسرائيلية، بما فيها الشحنات التي أعيد توجيهها من الموانئ الجنوبية بسبب الهجمات الحوثية في البحر الأحمر.
وقد دفع الحصار الحوثي للبحر الأحمر كلًا من الإمارات العربية المتحدة وإسرائيل إلى إنشاء جسرٍ بري يمر عبر الأراضي السعودية والأردنية لربط ميناء دبي بميناء حيفا. وكان الميناء يتعامل مع نحو 1.46 مليون حاوية عام 2018، وهو ما مثّل رقمًا قياسيًا تاريخيًا آنذاك. وبعد توقف مرفأ بيروت عن العمل سجّل ميناء حيفا تعامله مع أكثر من 1.47 مليون حاوية، مسجلاً بذلك رقمًا قياسيًا جديدًا.
خط الحجاز التاريخي: تنافس تركي-إسرائيلي؟
تبرز في الأفق تحولات استراتيجية، أبرزها مشروع سكك حديدية باسم “قطارات السلام الإقليمي” يربط ميناء حيفا بدول الخليج العربي، بتمويل إماراتي يبلغ 2.3 مليار دولار. وقد دخل هذا المشروع حيز التطبيق عام 2019 بعد أن أعلنت إسرائيل عن مشروع لخطوط السكك الحديدية يربط ميناء حيفا بالخليج العربي مرورًا بالأراضي الأردنية والسعودية.
وعام 2022 أعلنت الحكومة الإسرائيلية عن استكمال عملية إعادة بناء الجزء الفلسطيني من خط سكة حديد الحجاز التاريخي، وربطه مع خط سكة الحديد الموصول بميناء حيفا، مما سيسمح بتسريع حركة نقل البضائع عبر ميناء حيفا من وإلى المناطق الصناعية في الأراضي المحتلة، وكذلك من وإلى دول الخليج العربي، بنسبة لا تقل عن 70 في المئة، ومما سيوفر تكاليف الشحن بنسبة لا تقل عن 15 في المئة، وسيضاعف حركة النقل عبر ميناء حيفا.
وبالتوازي مع ذلك، عاد الحديث إلى الواجهة حول إعادة تفعيل خط الحجاز التاريخي بين تركيا والأردن وسوريا بعد تحسن الأوضاع الأمنية بنسبة مقبولة في سوريا. يعمل إحياء مشروع خط سكة حديد الحجاز بمبادرة سورية وتركية وأردنية على إنشاء ممر نقل إقليمي منافس يربط تركيا والقارة الأوروبية بالبحر الأحمر والخليج العربي، مما قد يؤثر على الجدوى والتفوق الاستراتيجي للمشروع الإسرائيلي الذي يربط ميناء حيفا بدول الخليج. واللافت أن الأردن هي العقدة المشتركة في كلا المشروعين، مما يضعها في موقع محوري وحساس في آنٍ معًا.
الحلقة المفقودة: دور مرفأ بيروت الإقليمي
يتعرض دور مرفأ بيروت التاريخي كمركز لوجستي إقليمي لتهديد حقيقي بسبب تعاظم دور ميناء حيفا. يأتي هذا التهديد مدفوعًا بالتطبيع الخليجي-الإسرائيلي، بينما لا يزال مرفأ بيروت يعاني من تداعيات الانفجار الكارثي والأزمات الداخلية. في مواجهة المشروع الإسرائيلي، يبرز سؤال حول الدور الذي يمكن أن يلعبه مرفأ بيروت في المعادلة الإقليمية الجديدة.
فالمشروع الذي تسعى إليه تركيا وسوريا والأردن لإحياء خط الحجاز التاريخي، يمكن أن يشكّل منفَذاً لمرفأ بيروت عبر خطوط فرعية بين سوريا ولبنان، بدلاً من الاعتماد الكلي على الموانئ التركية، مما يمكن أن يعزز أيضًا الجدوى الاقتصادية للمشروع، نظرًا للموقع الجغرافي الاستراتيجي الذي يتمتع به مرفأ بيروت. إلا أن ذلك سيتطلب جهدًا سياسيًا ودبلوماسيًا استثنائيًا من الحكومة اللبنانية.



