بين الهيركات المقنّع على الودائع بنسبة أدناها 70%، وتضخّم في الأسعار بلغ في نهاية تشرين الثاني 2022 نحو 1670%، وارتفاع متواصل في سعر الصرف الذي ازداد 30 مرّة، لا يجد المقيمون في لبنان خياراً لتحقيق دخل إضافي سوى عمليات «صيرفة». يقفون في الطوابير لتحقيق هذه الاستفادة مهما كانت ضئيلة. تكون أحياناً «حرزانة» إذا كان الفرق بين سعر صيرفة وسعر السوق كبيراً.
الخيارات المتاحة أمام الأسر اللبنانية ضئيلة جداً. ففي السنوات الماضية، قاد مصرف لبنان خطّة ترمي إلى اقتطاع مقنّع على الودائع. نجاح هذه الخطّة يتطلّب استعمال آلية التضخّم. فهذه الضريبة تعدّ من أسوأ الضرائب التي يمكن أن تفرض على مجتمع ما، لأن مفاعيلها لا تقتصر على تقليص قيمة المدّخرات، بل تصيب المداخيل.
تقول إحصاءات لجنة الرقابة على المصارف إنه في نهاية 2019 كان لدى المصارف نحو 2.8 مليون حساب في المصارف مودع فيه نحو 154 مليار دولار. نحو 95% من الحسابات، أو ما يوازي 2.6 مليون حساب هي ضمن شطور الودائع التي تقلّ عن 300 مليون ليرة ومجموع ما فيها يبلغ 37 مليار دولار. في المقابل، هناك 4.79% أو ما يوازي 134 ألف حساب هي ضمن الشطور العليا للودائع التي فيها ما فوق 300 مليون ليرة لغاية 150 مليار ليرة وما فوق، ومجموع ما فيها يبلغ 117 مليار دولار. صحيح أن هناك فروقات هائلة بين مجموعات الودائع ولها مدلولات كثيرة، إلا أن هذه المبالغ هي بجزئها الأكبر مدّخرات للبنانيين مقيمين وللبنانيين مغتربين، فضلاً عن ودائع عربية مختلفة. هذه الودائع فقدت قيمتها بمرور الوقت لتصبح قيمة ما يمكن سحبه منها 70% أدنى مما كانت عليه سابقاً. والرقم هذا متغيّر تبعاً لكل حساب ولفترات زمنية مختلفة. الخسارة التي لحقت بهذه المبالغ كبيرة، إنما ثقلها الأكبر كان على أصحاب الحسابات من الشطور الأدنى الذين خسروا الفتات القليل الذي كانوا يدّخرونه للأيام الصعبة. خسروه بفعل إدارة الأزمة الحالية التي ارتأت أن تقوم بعملية تذويب للخسائر عبر آلية التضخّم وتعددية أسعار الصرف. وهي الآلية نفسها التي تستعمل اليوم للعمليات على منصّة «صيرفة»، وتحديداً الهوامش بين أسعار الصرف.
الحسابات المصرفية كانت جزءاً أساسياً من ثروات الأسر التي كانت تعينها على تخطّي أيّ ظروف صعبة. كانت تستعمل من أجل الاستشفاء والطبابة، ومن أجل التعليم، ومن أجل بعض من الرفاهية. كل ذلك تبخّر وحلّ محلّه حسابات بأرقام لا معنى لها ولا تساوي شيئاً بالنسبة إلى الحسابات بالليرة، بينما كل دولار منها يساوي اليوم 8000 ليرة وربما سيصبح 15 ألف ليرة قريباً، مقابل ارتفاع في سعر الدولار النقدي من 1500 ليرة إلى 45 ألف ليرة (أمس).
بالنسبة إلى الغالبية من الطبقات الوسطى والفقيرة، فإن الحساب المصرفي كان ادخاراً تصعب خسارته، إنما هذه الخسارة لا يمكن مقارنتها بخسارة الدخل، أي العصب الأساسي الذي يعيل الأسرة. كان متوسط الدخل المصرّح عنه للضمان الاجتماعي يبلغ 1.8 مليون ليرة مع بدل نقل يومي يبلغ 8 آلاف ليرة، إنما مع تضخّم الأسعار إلى 1670% في السنوات الثلاث الماضية، فلم يبق منه سوى 6% فعلياً. ومع زيادات غلاء المعيشة، فإن الأجر الأدنى بات يساوي 4.5 ملايين ليرة (الأساس مع بدل النقل) أي أن ما بقي من الأجور فعلياً لا يصل إلى 10% من الأجر الوسطي الذي كان سائداً قبل الأزمة. طبعاً، هناك فروقات بين فئات الأجراء تبعاً للعقود ما بينهم وبين أصحاب العمل. فهناك أجراء ما زالوا يتقاضون أجوراً بالدولار النقدي تساوي أجورها بالدولار النقدي في 2019، وهناك أجراء تفاوضوا على أجور تساوي سعر الدولار المصرفي البالغ اليوم 8 آلاف ليرة، وهناك من لا يزال يتقاضى أجره بالليرة مع زيادات تصل إلى 10 أضعاف. رغم ذلك، الغالبية فقدت النسبة الأكبر من قيمة الأجر، فيما هناك أقلية تمكنت من الحفاظ على تصحيح كبير في الأجور.
موظفو القطاع العام الذين يتهافتون للقيام بعمليات «صيرفة»، نالوا تصحيحاً، وفقدوا الكثير من المميزات التي كانت تمنحهم حصانة اجتماعية واقتصادية مثل الاستشفاء. العمال الذين لا يصرّح عنهم للضمان، سواء كانوا زراعيين، أو عمال مصانع أو عمال شركات أمن وبائعين متجولين غيرهم، هم الأكثر هشاشة والأقل قدرة على التفاوض، وبالتالي نالوا أيضاً تحسينات بسيطة على الأجور. أما موظفو القطاع الخاص، فهم إما قادرون على التفاوض على نطاق واسع، أو هاجروا، أو خضعوا لأصحاب العمل. وبالتالي نالوا تصحيحات على الأجور أعلى قليلاً مما نال القطاع العام.
خسارة المدّخرات والأجور فادحة إلى درجة التهافت على «صيرفة» التي تمنح ضمن السقف المغلق (400 دولار) نحو 70 دولاراً إضافية على الدخل، أو ما يوازي فاتورة مولّد الكهرباء مثلاً.