حان الوقت لإحداث نقلة نوعية في العلاقة مع صندوق النقد الدولي، خصوصاً انّ إدارة الصندوق أصبحت اكثر تفهماً لعمق وتشعبات الأزمة اللبنانية، وباتت مستعدة للتأقلم مع الطروحات المنطقية التي تقضي بوضع خطة إنقاذ لا تتمّ على حساب طرف واحد أو طرفين، بل وفق توزيع منصف وعادل وواقعي للخسائر.
ما أعلنه رئيس حكومة تصريف الاعمال نجيب ميقاتي في كلمته امام مؤتمر الأمن الاقتصادي العربي في ظل المتغيّرات الجيوسياسية، يستطيع ان يدغدغ مشاعر كل اللبنانيين، لأنّه يشكّل عناوين هي بمثابة أحلام لم تتحقق منذ حوالى 5 سنوات، عندما وقع الانهيار. ويتماهى كلام ميقاتي مع التغييرات التي طرأت على اسلوب تعاطي إدارة صندوق النقد الدولي مع الأزمة، بحيث انّ البلد قد يكون امام فرصة جيدة للخروج من وضعية المراوحة القاتلة المستمرة منذ الانهيار. ومن خلال ما سمعه عدد كبير من اللبنانيين الذين أجروا محادثات مع ادارة الصندوق، يتبين انّ فرصة إنجاز خطة شاملة، تتناول الإصلاحات المطلوبة على مستوى القطاع العام، واعادة الانتظام الى العمل المصرفي، وصون حقوق المودعين بالحدّ الأدنى المُتاح، اصبحت أقرب الى التحقيق. لكن المستغرب في هذا الوضع، أن تبرز أصوات في الداخل، تعترض على أن تكون الدولة شريكة في تحمّل قسم من الخسائر. والأدهى انّ هذه الاصوات تعكس جهلاً مستحكماً، او نيات خبيثة ترتقي الى مستوى ضرب كل الحلول الواقعية، لأنّ المطلوب تنفيذ مخطط شطب الودائع بالمواربة، والقضاء على القطاع المالي، تمهيداً للدخول الى السوق والسيطرة على مفاصله بأبخس الأثمان.
هذه الأصوات «النشاز»، يدّعي من يُطلقها، انّ شخصيات لبنانية حاولت الترويج في واشنطن لفكرة انّ تراتبية المسؤوليات، تشمل الدولة، مصرف لبنان والمصارف، وبالتالي ينبغي توزيع الخسائر وفق هذه التراتبية. وذهب البعض إلى انتقاد شخصيات تحدثت عن أزمة نظامية في لبنان، ولا بدّ ان يأتي الحل بناءً على هذا التوصيف.
الغريب في هذه الانتقادات، انّها تتناول نقاطاً ينبغي ان نكون قد تجاوزناها منذ فترة طويلة، واتفقنا عليها. إذ كيف يجوز ان تكون تراتبية المسؤوليات موضع شك، بعد كل ما كشفته الوقائع والتحقيقات والخطط الحكومية المتتالية؟ واكثر من ذلك، بادر مصرف الدولة المركزي، وبناءً على مسار الشفافية الذي يحاول اتباعه بالتنسيق مع المؤسسات الدولية، وعلى رأسها صندوق النقد الدولي، إلى الاعتراف بخسائره حتى العام 2021، وبالديون المستحقة له في ذمّة الدولة، ( المجموع حوالى 68 مليار دولار)، ومع ذلك لا تزال تلك الاصوات تعزف المعزوفة نفسها، على طريقة رضي القتيل، ولم يرض القاتل. أو كيف يمكن لعاقل أن يشكّك في أنّ الأزمة ليست نظامية.
في كل الاحوال، ومن خلال مواقف ميقاتي الأخيرة، يبدو انّ السلطة بدأت تقتنع بأمرين:
اولاً- لا حلّ للأزمة على حساب المودعين او القطاع المصرفي.
ثانياً- لا بدّ من اعتماد العدل والإنصاف في خطة الإنقاذ، وهذا يعني انّ رئيس حكومة تصريف الاعمال، اقتنع بدوره بحتمية إشراك الدولة في تسديد فاتورة الحل.
ومن الواضح انّه يجري العمل حالياً على خطة جديدة، او إدخال تعديلات على الخطة القائمة، تضمن الإنصاف والعدالة بالنسبة الى كل الاطراف المعنية: الدولة، مصرف لبنان، المصارف والمودعون. وللتذكير، كانت الخطة الاولى التي وُضعت في عهد حكومة حسان دياب، تقضي بإعفاء الدولة من اي التزام، وتستهدف القضاء على القطاع المصرفي، والسعي الى احتكار السوق المالي من خلال 5 مصارف جديدة. في حين انّ الخطة الثانية، كانت تقضي بشطب الودائع، وإعفاء الدولة والمصارف من مسؤولية دفعها. في حين قضت الخطة الثالثة بإعفاء الدولة من التزاماتها المالية، وتحميل المصارف وحدها مسؤولية ردّ الودائع، بما كان سيؤدي إلى القضاء على القطاع المصرفي، وحرمان المودعين من حقوقهم. اليوم، ننتظر الخطة الرابعة، والتي يفترض انّها ستتراجع عن مبدأ شطب الودائع، وتصفية القطاع المصرفي، وستعتمد مبدأ الإنصاف والعدل، كما يقول ميقاتي، بما يعني انّ الدولة ستساهم في دفع قسم من ديونها، ومصرف لبنان سيكون قادراً على دفع التزاماته المالية أو قسماً كبيراً منها، والمصارف ستصبح قادرة على دفع الودائع، او القسم الأكبر منها، والمودعون سيحصلون على اموالهم، او على القسم الأكبر منها.
ضمن هذه الروحية، ستكون ادارة صندوق النقد الدولي جاهزة للتجاوب وتبنّي الخطة، والانطلاق في مسار اصلاحي يستند إلى مبدأ إعادة هيكلة القطاع العام، وإنجاز الإصلاحات، وضمان عودة القطاع المصرفي الى عمله الطبيعي، للمساهمة في تسريع عودة الاقتصاد الى مسار التعافي والنمو. وكل ما عدا ذلك، لا يعدو كونه مجرد مخططات مشبوهة أو مزايدات رخيصة، أو حماقات مجانية تنمو كالفطر بلا هدف وبلا أي حسّ بالمسؤولية.