عاش اللبنانيون طوال الشهرين الماضيين حلم خطّة الكهرباء التي سوّقها وزير الطاقة، والتي كان من المفترض أن تؤمّن تغذية مؤسسة كهرباء لبنان لمدّة تتراوح بين 10 و12 ساعة يوميّاً، وخلال فترة قياسيّة لا تتجاوز نهاية العام الحالي. تطوّرات اليومين الماضيين أظهرت أن كل ما سمعه اللبنانيون من وعود لم يكن سوى سراب وأوهام، لا ترتكز على أي معطيات واقعيّة. فلتحقيق هذا المستوى من التغذية، راهنت وزارة الطاقة على الحصول على نصف الإنتاج الكهربائي من الغاز المصري عبر معمل دير عمار، بالإضافة إلى كهرباء المعامل الأردنيّة بالاستفادة من هذا الغاز. وهذا المشروع الطموح يستلزم الحصول على قرض من البنك الدولي تتجاوز قيمته ربع مليار دولار.
لكن خلال اليومين الماضيين، تبيّن أن البنك الدولي يطرح شروطاً قاسية جدّاً لتأمين هذا التمويل. وهي شروط إصلاحيّة تطال بنية قطاع الكهرباء اللبناني وحوكمته، بالإضافة إلى طريقة تلزيم عمليّاته ونوعيّة الرقابة المفروضة على عقود التلزيم. وهذه الإصلاحات التي تقاعس لبنان عن القيام بها منذ التسعينات، تتناقض بشكل جذري مع مصالح الطبقة السياسيّة ومن يدور في فلكها من متعهّدين ومقاولين. وهو ما دفع السياسيين إلى الاستماتة لعرقلتها طوال العقود الماضية. بمعنى آخر، تحقيق شروط البنك الدولي لن تكون نزهة يسيرة بالنسبة إلى الحكومة، كما صوّرت المسألة وزارة الطاقة.
أولى شروط البنك الدولي تتعلّق اليوم بتعيين الهيئة الناظمة للقطاع، ومن يعرف قصّة الهيئة الناظمة يدرك أن ما يطلبه البنك الدولي هنا هو مهمّة شبه مستحيلة، قد تعجز حكومة ميقاتي عن القيام بها. بل وحتّى رئيس الحكومة نفسه أشار منذ مدّة إلى صعوبة القيام بهذه المسألة في إحدى المقابلات التلفزيونيّة الأخيرة، حين رد على السؤال عن مصير الهيئة بالقول “ثمّة أمور أستطيع القيام بها وأخرى لا أستطيع”، مشيراً إلى مكائد التيّار الوطني الحر التي عرقلت تعيين الهيئة، وسعي التيّار إلى تفريغها من صلاحيّاتها، عبر اقتراح قانون في المجلس النيابي.
يطلب البنك الدولي اليوم، وكجزء من شروط تمويل مشروع الغاز المصري، عودة الانتظام إلى عقود التوزيع والصيانة، عبر تجديد هذه العقود بعد إنجاز مناقصات شفّافة، ووضع دفاتر شروط واضحة. وتنفيذ هذا الشرط تواجهه عقبات عدّة، أوّلها عدم قدرة الدولة اللبنانيّة على اجتذاب أي شركات دوليّة ذات مصدقيّة في أي مناقصة يمكن عقدها حاليّاً، خصوصاً إذا نصّت دفاتر الشروط –كما يطلب البنك الدولي- على معايير محدّدة تحصر الاشتراك بالمناقصات بالشركات التي تملك المؤهّلات التقنيّة اللازمة. وهروب الشركات الدوليّة من العمل في لبنان يرتبط تحديداً بحالة التعثّر التي تمر بها الدولة اللبنانيّة، وأزمة شح العملة الصعبة، وعدم رغبة الشركات بتحمّل مخاطر العمل في بيئة كهذه.
أما العقبات الأخرى التي تواجه تنفيذ هذا الشرط، فترتبط بتعثّر القطاع المصرفي، وهو ما يحول دون تأمين الشركات كتب الكفالات المصرفيّة المطلوبة للاشتراك في المناقصات، أو كتب كفالة حسن التنفيذ المطلوبة بعد توقيع العقود الجديدة. مع الإشارة إلى أن عقد مناقصات شفّافة ونزيهة، سيتضارب أيضاً مع مصالح القوى السياسيّة التي تتقاسم حاليّاً هذا النوع من العقود، وتستفيد من استمراريّة عمل الشركات المحسوبة عليها، مع تنفيذ الحد الأدنى من الأعمال الموكلة إليها حسب العقود.
يطلب البنك الدولي إجراء مجموعة من الاصلاحات التقنيّة، من قبيل مكافحة التهرّب من دفع الفواتير ورفع مستويات الجباية، والحد من الهدر الناتج عن سرقة التيّار الكهربائي. وهذا النوع من الشروط، سيعني وضع القوى السياسيّة في مواجهة فئات واسعة من جمهورها في جميع المناطق اللبنانيّة، على مشارف استحقاق الانتخابات النيابيّة. ولهذا السبب بالتحديد، ستواجه الحكومة صعوبة كبيرة في إقناع الأحزاب السياسيّة بإعطاء الغطاء السياسي والأمني لفرق العمل المكلّفة بتنفيذ هذه الإجراءات، وخصوصاً لجهة ملاحقة التعديات على شبكة الكهرباء.
وفي الوقت نفسه، يطلب البنك الدولي إعادة الانتظام إلى علاقة مؤسسة الكهرباء بوزارة الماليّة ومصرف لبنان، بمعنى تحديد سعر الصرف المعمول به لتأمين السيولة بالعملة الصعبة للمؤسسة، وتأمين الدولارات التي تحتاجها لدفع مستحقاتها. وهذه الشروط، تنطلق من رغبة البنك بضمان عدم تعثّر المؤسسة على المدى المتوسّط والبعيد، وتأكيد قدرتها على سداد قيمة القرض الذي ستستفيد منه من البنك. لكن هذا الشرط سيواجه بدوره تعقيدات لا تحصى، وتحديداً من ناحية تراجع مستوى السيولة المتوفّرة لدى مصرف لبنان، لتمويل تحويلات مؤسسة الكهرباء، ناهيك عن ارتباط مسألة سعر الصرف بخطة الحكومة التي سيتم التفاوض عليها مع صندوق النقد.
بكل بساطة، لن تدخل خطّة الكهرباء حيّز التنفيذ قريباً، ولن يبصر اللبنانيون نور مؤسسة كهرباء لبنان على مدى 10-12 ساعة في اليوم قبل نهاية العام. فتعقيدات قطاع الكهرباء، باتت مرتبطة بتعقيدات الوضعين المالي والنقدي، وهي تعقيدات لا يمكن التعامل معها على القطعة قبل الدخول في مسار التعافي المالي. أما كل ما قيل خلال المرحلة الماضية، فلا يتجاوز حدود الوعود الفارغة.