في ظل انشغال لبنان والمنطقة بالتطوّرات الأمنيّة الساخنة، مرّ من دون الكثير من الاهتمام قرار خفض معدّلات الفائدة، الذي اتخذه الاحتياطي الفيدرالي الأميركي يوم الأربعاء. هذا القرار، كان الأوّل من نوعه منذ العام 2020، ليعكس انعطافة مفصليّة في السياسات النقديّة المتبعة في الولايات المتحدة الأميركيّة. بصورة أوضح، يمكن القول أنّ الاحتياطي الفيدرالي أنهى يوم أمس حقبة كاملة من سياسات “التشديد النقدي“، التي بدأت منذ العام 2022، وتجسّدت في قرارات متواصلة لرفع الفوائد. منذ ذلك الوقت، كان الاحتياطي الفيدرالي يحاول لجم التضخّم، في حقبة “ما بعد وباء كورونا”، عبر امتصاص السيولة ولجم الإقراض، ولو أدّى ذلك إلى ضغوط على مستوى معدلات النمو الاقتصادي.
خلفيّة القرار الأميركي واضحة: أنجز الاحتياطي الفيدرالي المأمول من سياسة التشديد النقدي، بعدما تراجعت معدلات التضخّم إلى حدود الـ2.5% في أواخر الشهر الماضي، قياسًا بـ 2.9% في أواخر الشهر الذي سبقه (تمّوز). لم تبلغ هذه المعدّلات مستوى التضخّم المستهدف طبعًا، والمُحدد عند مستوى 2%، غير أنّ الاحتياطي الفيدرالي بات على ثقة أنّ الأمور ذاهبة بهذا الاتجاه. في كل الحالات، يُعتبر هذا المستوى تقدّمًا كبيرًا، قياسًا بمستوى الذروة الذي سجّلته هذه المعدلات، عند حدود الـ 9.1% في شهر كانون الثاني 2022. هكذا، اعتبر الاحتياطي الفيدرالي أنّه حقّق المُهمّة، وبات بإمكانه إراحة اقتصاده المحلّي –واقتصاد العالم معه- من شبح الفوائد المرتفعة.
التداعيات على الاقتصاد اللبناني
ثمّة اعتقاد شائع ومغلوط، مفاده أنّ الاقتصاد اللبناني بات أبعد من أن يتأثّر بهذا النوع من التطوّرات، بسبب طبيعة أزمته، التي عزلته عن تداولات النظام المالي العالمي. لبنان سيتأثّر طبعًا، لكنّه لن يحصّل الكثير من التداعيات الإيجابيّة التي كان يفترض أن تنتج عن تطوّر من هذا النوع، بسبب الأزمة القائمة.
لم تكن صدفة أن ترتفع أسعار الذهب العالميّة يوم أول أمس إلى أعلى مستوياتها التاريخيّة على الإطلاق، وصولًا إلى أرقام ناهزت الـ 2592 دولار للأونصة في بعض ساعات النهار. بل ويمكن القول أنّ أسعار الذهب كانت قد بدأت موجة من الارتفاعات السريعة منذ يوم الإثنين الماضي، على وقع التوقّعات بصدور قرار خفض الفوائد يوم أمس. المعادلة هنا واضحة: خفض الفوائد يدفع أسعار الذهب صعودًا في العادة. ودخول الاحتياطي الفيدرالي في حقبة خفض الفوائد، خلال الأشهر المقبلة، سيعني المزيد من الارتفاعات في أسعار الذهب العالميّة. هذه العلاقة السببيّة –والعكسيّة، بين أسعار الفوائد والذهب- لها دوافع بديهيّة، إذ أنّ خفض الفوائد يعني تلقائيًا خفض “العائد البديل” عن الاحتفاظ بالذهب، ما يجعل الذهب أكثر إغراءً للمستثمرين.
هنا، نصل إلى أهم تداعيات القرار الأميركي على المؤشّرات الاقتصاديّة في لبنان. فقيمة الذهب الموجود بحوزة مصرف لبنان، كانت قد ارتفعت خلال السنوات الماضية من 13.57 مليار دولار في منتصف كانون الأوّل 2019، إلى ما يقارب الـ 23.4 مليار دولار في أواخر الشهر الماضي. بمعنى أوضح، حقّق المصرف المركزي خلال سنوات الأزمة أرباحًا –محاسبيّة- بقيمة 9.83 مليار دولار، لسبب وحيد: ارتفاع أسعار الذهب العالميّة، على وقع اضطرابات وباء كورونا، وما بعد الوباء، والحرب على أوكرانيا، ثم الحرب على غزّة وما تلاها.
اليوم، يدخل العالم حقبة جديدة من “التيسير النقدي”، وقرار الاحتياطي الفيدرالي يوم أمس لن يكون الأخير حتمًا. وبهذا المعنى، من المتوقّع أن تشهد ميزانيّة المصرف المركزي ارتفاعات متتالية وجديدة في قيمة احتياطات الذهب، وهو ما سيرمّم -بشكل نسبي ومحدود طبعًا- بعض خسائر هذه الميزانيّة. ومن المعلوم أن مصرف لبنان بدأ منذ العام 2023 باتباع أصول محاسبيّة جديدة، بما يخفّض الخسائر المتراكمة في الميزانيّة، بالتوازي مع –بل وفي مقابل- الارتفاع في قيمة احتياطات الذهب. هذا الإجراء المحاسبي قد يرمّم الملاءة نظريًا ومحاسبيًا، لكنّه لن يعالج أزمة السيولة، طالما أن استخدام الذهب ممنوع إلا بتشريع خاص من المجلس النيابي.
في مقابل هذا التأثير، لن يستفيد لبنان من بعض التداعيات الإيجابيّة التي كان يفترض أن ينعم بها كدولة نامية، بعد خفض الفوائد الأميركيّة. في العادة، تؤدّي قرارات خفض الفوائد الأميركيّة إلى قرارات مماثلة في سائر أنحاء الدول المتقدمة اقتصاديًا، وهو ما ينعكس بحركة تدفّق عكسي للسيولة، أي من الدول المتقدمة إلى الدول النامية. وهذا ما شهده لبنان مثلًا بعد الأزمة الاقتصاديّة العالميّة عام 2007، وما تلاها من قرارات “تيسير نقدي”. اليوم، لن يكون بإمكان الاستفادة من هذه التدفّقات النقديّة، بوجود الأزمة التي تحول استقبال الودائع والتحويلات إلى النظام المالي المحلّي.
بإمكان العالم أن يرتاح
على مستوى الدول النامية، وحتى الاقتصادات المتقدمة، بات بالإمكان القول أنّ قرار الاحتياطي الفيدرالي يطوي صفحة حقبة ضاغطة للغاية، على المستوى المالي والاقتصادي. فرفع الفوائد في الاقتصادات الغربيّة، ضغط طوال السنوات الماضية على مخزونات العملة الصعبة في الدول النامية، وهو ما أدى تلقائيًا إلى ضغوط نقديّة رأينا تداعيتها في دول مثل مصر وتركيا. وفي الوقت نفسه، اضطرّت المصارف المركزيّة في مختلف أنحاء العالم إلى مجاراة الاحتياطي الفيدرالي في سياسته النقديّة، لحماية احتياطاتها ومنعها من النزوح، وهو ما ضغط على القطاعات الاقتصاديّة في هذه الدول بفعل ارتفاع كلفة الاقتراض.
في الدول الغربيّة نفسها، ساهم رفع الفوائد في التسبّب بأزمات مصرفيّة عدّة، كما حصل في الولايات المتحدة نفسها، في حالة مصارف “سيلكون فالي” و “سيغنتشر” و”سيلفرغيت”، أو في أوروبا في حالة “كريدي سويس”. وحتّى معدلات النمو الاقتصادي العالميّة المتواضعة، كانت مدفوعة بتداعيات حقبة “التشديد النقدي”، إلى جانب تداعيات ارتفاع أسعار مصادر الطاقة في أوروبا ومعدلات التضخّم. وجميع تقارير صندوق النقد والبنك الدولي، كانت تعتبر سياسات “التشديد النقدي” تحديًا يجب التعامل معه، إلى أن تتمكّن المصارف المركزيّة من التغلّب على شبح التضخّم.
بهذا الشكل، يمكن القول أن العالم طوى صفحة كاملة، وانتقل إلى مرحلة أخرى على مستوى السياسات النقديّة في مختلف أنحاء العالم، وليس على مستوى الولايات المتحدة فقط. وهذه الحقيقة لن تعني تجاوز تحديات أخرى لا تقل أهميّة، كتلك المتعلّقة بالحروب التجاريّة بين التكتلات الاقتصاديّة الكبرى، وأثر الاضطرابات الجيوسياسيّة. لكنّها ستعني التخلّص من أحد أهم العوامل الضاغطة على الاقتصاد العالمي. ويمكن الإشارة أيضًا إلى أن الاحتياطي الفيدرالي استعاد الثقة إلى حدٍ ما، بأدوات سياسته النقديّة التقليديّة المتعلّقة بمكافحة التضخّم، بعدما طُرحت بعض الشكوك بقدرة هذه السياسة على ضبط ارتفاع الأسعار.