نشرت المصارف التجاريّة تباعًا أرقامها للفصل الأوّل من العام الراهن. كما نشر مصرف لبنان مؤشّرات القطاع للميزانيّة المجمّعة لغاية نهاية شهر أيّار الماضي. الأرقام التي يجري نشرها هذه السنة، تتميّز باعتماد سعر الصرف الفعلي والواقعي لإعداد الميزانيّة. وهو ما يعطي صورة أوضح بكثير عن وضعيّة القطاع الحقيقيّة، بخلاف ميزانيّات الأعوام الماضية. إذ أنّ اعتماد سعر صرف 15 ألف ليرة للدولار خلال العام الماضي، و1,500 ليرة للدولار للأعوام التي سبقته، ساهم في تضخيم قيمة الأصول المقوّمة بالليرة اللبنانيّة، عند تقدير حجمها بالدولار الأميركي.
في جميع الحالات، الاستنتاج الأهم الذي يمكن التوصّل إليه من الأرقام المحدّثة، هو أن تصفية الودائع بشكل متدرّج ساهمت في تقليص حجم الميزانيّة الإجماليّة للمصارف، وفي تخفيض قيمة إلتزاماتها بشكل عام. غير أنّ هذا التطوّر لم يساهم في تخفيض كتلة الخسائر، المتمثّلة بنسبة الودائع التي جرى توظيفها لدى مصرف لبنان. بمعنى آخر، خفّض القطاع حجم الإلتزامات والموجودات من جهتي الميزانيّة، من دون تخفيض نسبة الفارق بينهما. وهو ما يظهر عند مراجعة قيمة التوظيفات المصرفيّة الحاليّة في المصرف المركزي.
تركيبة الودائع والتوظيفات
وفقًا لأرقام أواخر شهر أيّار الماضي، انخفض حجم الودائع الإجماليّة في القطاع المصرفي إلى حدود 90.15 مليار دولار أميركي، من بينها 69.1 مليار دولار مستحقّة للمودعين المقيمين في لبنان، و21.05 مليار دولار مستحقة للمودعين غير المقيمين. بهذا المعنى، يمكن القول أن نسبة الودائع المستحقة للمقيمين حاليًا تتجاوز 76%، من أصل إجمالي الودائع المسجّلة في الميزانيّة.
الملفت للنظر هنا، هو أنّ حجم الودائع الإجمالي كان يقارب 169.62 مليار دولار في الفترة المماثلة من العام 2019، أي قبيل حصول الأزمة المصرفية التي نشهدها. وبذلك يمكن القول إنّ المصارف تمكّنت خلال سنوات الأزمة من تذويب ما يقارب 79.47 مليار دولار من الودائع، إما عبر تسديد القروض بالشيكات المصرفيّة، أو تسديد الودائع بحسب تعاميم مصرف لبنان، أو نتيجة تدهور سعر الصرف وانخفاض قيمة الودائع المقوّمة بالليرة اللبنانيّة. وهكذا تكون نسبة الانخفاض في حجم الودائع نحو 47% خلال خمس سنوات فقط.
في مقابل الودائع، لم يعد حجم التسليفات الممنوحة للقطاع الخاص المقيم يتجاوز اليوم 5.8 مليار دولار، مقارنة بنحو 49.26 مليار دولار أميركي في أيّار 2019. وهذا ما يعني أكثر من 43.46 مليار دولار من القروض المصرفيّة، أو 88% من هذه القروض، جرى سدادها خلال السنوات الخمس. وبطبيعة الحال، يبدو من الواضح الارتباط الوثيق ما بين عمليّة تذويب الودائع خلال هذه السنوات، وتسديد القروض خلال الفترة نفسها.
ورغم كل هذا التذويب المتدرّج في إلتزامات المصارف للمودعين، تشير أرقام نهاية أيّار الماضي أن توظيفات المصارف لدى مصرف لبنان ما زالت تتجاوز 81.64 مليار دولار، أي ما يقارب 90.5% من إجمالي إلتزامات المصارف للمودعين. وهذه التوظيفات، تتنوّع ما بين شهادات الإيداع والحسابات بالدولار الطازج والحسابات الجاريّة وغيرها.
في مقابل توظيفات المصارف لدى مصرف لبنان، تقتصر قيمة الاحتياطات الموجودة حاليًا على نحو 10.11 مليار دولار، ومن ضمنها تلك التي تشكّلت مقابل ودائع القطاع العام لدى مصرف لبنان. وهذا ما يعني أن حجم كتلة الخسائر الحالي لم يختلف كثيرًا عن التقديرات التي وضعتها الحكومة اللبنانيّة قبل عامين، عند تحضير خطّة التعافي، أو قبل أربع سنوات، عند وضع خطّة لازارد. باختصار، خفّضت المصارف إلتزاماتها، وخفّضت –في المقابل- توظيفاتها لدى مصرف لبنان، من دون أن يختلف حجم الفجوة الإجمالي في الميزانيّات المجمّعة.
بطبيعة الحال، يمكن القول أن المصارف استفادت من ترشيق الميزانيّات على هذا النحو، عبر تقليص حجم الأموال التي ستحتاج إلى ضخّها لاحقًا لإعادة الرسملة. إذ سيعتمد حجم هذه الأموال طبعًا على قيمة الإلتزامات الإجماليّة، وعلى حجم الودائع المترتبة على كل مصرف. لكنّ ترشيق الميزانيّة على هذا النحو، لن يعني تسهيل عمليّة رد الودائع في المستقبل، أو تمكين المصارف من معالجة الفجوة الموجودة (إلا إذا تم تحويل الودائع إلى ديون عامّة، وفقًا للمشروع الذي يعمل عليه مجلس النوّاب اليوم).
تخفيض حجم القطاع
قيمة الموجودات الإجماليّة للمصارف، لم تعد تتجاوز –في أواخر شهر أيّار- حدود 104.29 مليار دولار، وهو ما يقل بـ 99.55 مليار دولار قيمة موجودات المصارف الإجماليّة في الفترة المماثلة من العام 2019، والذي بلغ نحو 203.84 مليار دولار. بهذه الصورة، يكون القطاع المصرفي قد صفّى نحو نصف موجوداته الإجماليّة خلال السنوات الخمس، جرّاء عمليّات التقاص ما بين الودائع والقروض، أو تسديد الودائع وفقًا لتعاميم المصرف المركزي. وهذا ما يؤكّد كل ما قيل في بدايات الأزمة الراهنة، عن التضخّم غير المنطقي في حجم القطاع المصرفي، مقارنة بحجم الاقتصاد المحلّي، وعن ضرورة تخفيض حجم القطاع بشكل متدرّج.
ومع ذلك، من المهم الإشارة إلى أنّ عمليّة التصفية وتخفيض حجم الموجودات، لم تؤدِّ إلى تقليص حجم القطاع مقارنة بحجم الاقتصاد المحلّي. فنتيجة الانكماش الذي شهده لبنان خلال السنوات الخمس الماضية، وانخفاض قيمة الناتج المحلّي، بات حجم الموجودات المصرفيّة الحالي يقارب 4 أضعاف حجم الناتج المحلّي. وبهذا الشكل، ما زال القطاع المصرفي يشهد تضخّمًا كبيرًا مقارنة بحجم الاقتصاد الكلّي، وهو ما يفترض أن تعالجه عمليّة إعادة الهيكة في المستقبل.
في جميع الحالات، تبقى المشكلة الأهم حاليًا بقاء كتلة الخسائر على حالها، بغياب أي طرح واقعي لمعالجتها، باستثناء ما تراهن عليه القوى السياسيّة لجهة تحويل الودائع إلى ديون سياديّة. هذا الطرح، سيعني الإبقاء على كتلة الخسائر نفسها، لكن مع نقلها إلى كاهل الدولة اللبنانيّة، بدل أن تكون إلتزامًا على القطاع المصرفي. فكرة من هذا النوع، ستنظّف ميزانيّات المصارف طبعًا، لكنّها ستؤدّي إلى “تلويث” ميزانيّة الدولة وخنقها على مدى عقود مقبلة.