يصف فادي خلف الأمين العام في جمعية مصارف لبنان مشاريع القوانين المتعدّدة التي طرحتها السلطة على مدار السنوات الاخيرة لحل الأزمة المالية، بـ”الجعجعة من دون طحين” لفشلها بإيجاد الحلول التي تحفظ حق المودعين وتؤمن استمرار القطاع المصرفي.
وإن كان محقّاً بالتوصيف، غير أنه نسي أو تناسى أن من ساهم بشكل أساسي ولعب دوراً رئيسياً بتقويض الحلول للأزمة المالية، وبضياع حقوق المودعين، هي المصارف اللبنانية مجتمعة، بدءاً من رفضها بداية الأزمة إقرار قانون الكابيتال كونترول وإمعانها بتهريب الأموال الى الخارج، مروراً بمحاربتها خطة لازارد، ووصولاً إلى مواجهة قانون رفع السرية المصرفية وتفريغه من مضمونه، ورفض صوغ قانون إعادة هيكلة المصارف بكل أشكاله.
كل ذلك لم تحقّقه المصارف منفردة، إنما بدعم غير محدود من ممثليها في الحكومة ومجلس النواب، ليأتي اليوم خلف الناطق باسم المصارف ليبكي على أطلال الحلول التي طُرحت على مدار السنوات الماضية، ويضع المصارف في دفة المودعين الذين اختُلست أموالهم وأُهدِرت حقوقهم وواجَهتهم المصارف بالأمن والعسكر على أبوابها.
واستشهد خلف في افتتاحية التقرير الشهري لجمعية مصارف لبنان، بعنوان “الودائع بين القدسية والإمكانيات”، بقول لأينشتاين: الجنون هو أن تفعل الشيء نفسه مرة بعد أخرى وتنتظر نتائج مختلفة. وقال “تعددت خطط معالجة الأزمة المالية حتى ضاع المودع بينها، وبتنا نفرق بين مشاريع القوانين من عناوينها وليس من مضمونها، فانتهت كلها بعد خمس سنوات على جعجعة، وبقي المودع بلا طحين. في الوقت عينه كانت الأموال تتبخر، عبر دعم مشبوه وتدخل غير مجد وتمويل ملتبس وتسديد غير عادل للقروض، حتى تقلصت الأموال وتراجعت فرص تسديد المبالغ التي كان يمكن تسديدها عند بدء الأزمة”.
ويضيف: “من هنا، أتت إستراتيجية السلطات النقدية مؤخراً لترتكز على نقطتين رئيسيتين:
أولا: وقف النزف من الاحتياطي بالعملات الأجنبية وإعادة تكوينه.
ثانيا: البحث عن معالجات جديدة من خارج الحلقة المفرغة التي تدور فيها الخطط منذ خمس سنوات.
السؤال يبقى: هل تتلقفها الحكومة والمجلس النيابي للخروج من حال المراوحة؟
مما لا شك فيه أن النقاشات البناءة بين المركزي وجمعية المصارف (دون إنكار وجود تباينات في وجهات النظر)، تبشر بأفق جديد قد يوصلنا إلى حل ما يراعي قدسية الودائع من جهة، والإمكانيات المتاحة من جهة أخرى”.
قدسية الودائع
أما قدسية الودائع فيرى خلف بأنها لدى المصارف تعني حكماً قدسية ودائع المصارف لدى مصرف لبنان. وإذ يعتبرها “من المسلمات التي لا يختلف عليها اثنان والمصارف أول من يطالب بها، كونها حق للمودعين لدى المصارف التجارية (حوالى 90 مليار دولار)، تماماً كما هي حق للمصارف في إيداعاتها لدى مصرف لبنان (حوالى 80 مليار دولار). إن القدسية لا تقبل التجزئة ولا الكيل بمكيالين”. يتناسى خلف بأن المصارف ذوّبت منذ بداية الأزمة ما لا يقل عن 30 في المئة من قيمة الودائع بصرفها إياها على الدولار المصرفي، الذي ابتكرته وسعّرته بتزكية من مصرف لبنان بما يقل عن سعر الدولار الحقيقي بنسبة تقارب 85 في المئة.
الواقعية في الحلول المقترحة
ويرى خلف بأن معالجة الأمور عبر أية طروحات جديدة لا بد من أن تأخذ في الاعتبار ما هو ممكن في المدى المنظور، وما يجب معالجته تباعاً وبحسب السيولة المتوافرة، أكان لدى الدولة أو مصرف لبنان أو المصارف.
لافتاً إلى أن “أي خطط تؤدي إلى إلزام الدولة بدفع كامل موجباتها بشكل آني أو تطلب من مصرف لبنان تسديد كامل مستحقاته للمصارف بشكل فوري، أو تلزم المصارف بتسديد كامل الودائع نقداً، من دون الأخذ في الاعتبار السيولة المتوافرة لديها، سيكون نوعاً من ذر الرماد في العيون، يعكس نية مبطنة بالجنوح نحو الشعبوية أكثر منه إلى الواقعية”.
وهنا لا بد من السؤال، كيف يمكن أخذ السيولة المتوافرة لدى المصارف بالاعتبار من دون احتساب الأموال التي تم تهريبها منذ عام 2019 وحتى اليوم الى الخارج.
معايير تسديد الودائع
ويعدّد خلف النقاط المطروحة من قبل السلطات النقدية لتسديد الودائع حاليا هي:
– ضرورة التأكد من مصدر الأموال وإثباته.
– إعادة الأموال لأصحابها الحقيقيين بعد حسم الأرباح المحققة بطرق غير منطقية.
– التمييز بين مودع ومستثمر.
– توفير سيولة فورية للمودعين الأكثر احتياجاً، ومنحهم القدرة على التعامل مع الاحتياجات اليومية والأساسية.
وغيرها من النقاط المطروحة للنقاش، شرط أن تأخذ في الاعتبار الإمكانات التطبيقية، وتدرس بتمعن مع المصارف التي هي الأقرب إلى أرض الواقع.
ويرى أن قضية الودائع المصرفية في لبنان تتطلب حلولاً متوازنة، تأخذ في الاعتبار حقوق المودعين والوضع الاقتصادي الصعب. بين القدسية والواقع، يجب أن تكون الحلول مدروسة، تضمن العدالة للمودع وتحافظ على استمرارية القطاع المصرفي. من المجدي أن تتضمن أي خطة شروطاً واضحة لمراعاة السيولة المتوافرة لدى القطاع المصرفي، وقدرات تحمل الدولة للالتزامات المترتبة عليها.
ويعود خلف إلى المطالبة من جديد بتحميل الدولة عموم الخسائر المصرفية، وذلك من خلال إنشاء صندوق استعادة الودائع الذي برأيه “يمكن أن يكون خطوة فعالة في هذا الاتجاه، مما يساهم في حل الأزمة بطرق عادلة ومستدامة”.
ويختم خلف بالقول “التعاون بين السلطات السياسية والنقدية والمصرفية يمكن أن يفتح أفقاً جديداً لتحقيق التوازن بين قدسية الودائع والإمكانيات المتاحة، لضمان مستقبل أفضل للبنان واللبنانيين”.