هناك ثمة عوامل ينبغي النظر اليها لا سيما وان البيئة اللبنانية مؤاتية، والمجتمع بات يعتقد الفساد من الأمور العادية. والسؤال من اين لك هذا، بات من الامور البالية:
اولا- الفساد يحدث من الاعلى الى الاسفل ما يعني ان كبار مسؤولي الدولة يتغاضون عن الفساد فيكون متفشياً.
ثانيا- تنفيذ القوانين بصرامة اذ على الافراد اظهار ان ثرواتهم اتت بالطرق القانونية واذا تعذّر عليهم ذلك فهم فاسدون، الامر بسيط جداً.
ثالثا- انشاء لجنة ومنحها صلاحيات وامكانات ضخمة تسمح لها بالتحقيق مع ايّ شخص، ما يعني انه من غير المسموح حصول أي نوع من الرشوة او الفساد.
رابعا- نشر شعور مكافحة الفساد في المجتمع والاستعداد للإبلاغ عن ممارسات الفساد عندما يلاحظها المواطن.
في الجلسة الافتتاحية للقمة التي عقدت في لندن منذ ثلاث سنوات تقريباً عرض رئيس الوزراء السنغافوري لي هسين لونغ لأربعة عوامل رئيسة سارت فيها بلاده من اجل انجاح خطة مكافحة الفساد والعوامل التي عرضها لونغ هي التالية:
اولا- ورث السنغافوريون نظام عمل نظيفا من حكم الاستعمار البريطاني ومؤسسات سليمة وقوانين عمل فعالة وقضاءً حازما ومستقلا.
ثانيا- الحاجة الماسة الى منع الخدمة العامة من الفساد وتصميم الحزب مواصلة العمل من اجل حكومة نظيفة.
ثالثا- ارادة سياسية مؤسسية شاملة لمكافحة الفساد وسنّ القوانين وإنشاء (Prevention corruption act (PCA
رابعا- تنمية ثقافة تتجنّب الفساد والاستعداد للابلاغ عن ممارسات الفاسد ومواجهته.
يدرك السنغافوريون ان القانون يسري على الجميع وان الحكومة سوف تنفّذه من دون خوف او محاباة حتى عندما يكون محرجا. هكذا نرى ان سنغافورة استطاعت في العقود الماضية خلق سياسة شفافة وبناء قضاء سليم وحققت نجاحا كبيرا في القضاء عليه، لكنها تعتبر لغاية الآن الفساد مشكلة يجب مواجهتها، وعدم الركون للأوهام كون الطبيعة البشرية جشعة.
كلها امور وضعتها سنغافورة على السكة وتابعتها ولم تزل من اجل مكافحة هذه الآفة. ولكي تكون الامور شفافة تمّ رفع الحصانة عن المسؤولين، وسمحت لعملاء حكوميين في تفتيش الحسابات المصرفية والممتلكات وليس فقط للموظفين وكذلك لأولادهم وزوجاتهم والاقارب حتى الاصدقاء، ومنح المحاكم السلطة المطلقة في مصادرة تلقائية لأية إيرادات متأتّية من أفعال الفاسد.
يكمن العنصر الاساسي في هذا المجال في عاملين مهمين لا سيما عدم المساومة والعيش بقدر استطاعتك بما يعني انك متهم حتى تبرز براءتك وانك لم تستخدم مركزك او صلاحياتك من اجل تمرير ايّ عملية حتى ولو كانت بسيطة.
هكذا اصبحت سنغافورة في اقل من ستة عقود احدى ابرز الدول في مجال محاربة الفساد ومعتمدة في ذلك على وسائل اعلام مستقلة وموضوعية تغطي جميع حالات الفساد وحيث يصبح المرتشي على الفور «بطل» صفحاتها الاولى. هذه الخطوات تنظيمية تحوّلت معها دولة فقيرة الموارد الطبيعية الى احدى اكبر اقتصادات العالم في اقل من اربعين عاماً.
هذه الخطوات التنظيمية قد تكون مثالا يحتذي في جميع دول العالم علما ان عملية مكافحة الفساد باعتراف السنغافوريين بالذات عملية غير مكتملة ابدا وبحاجة دائمة الى متابعة وتفعيل.
هذه الامور والخطوات يمكن لأي بلد تطبيقها اذا ما اعتبرنا ان لا محاصصة ولا قوانين تحمي الفاسد والمرتشي ولا سيما المحسوبيات. واذا كان لبنان يتطلع مع هذا العهد لمكافحة الفساد لا بد من دراسة معمّقة للتجربة السنغافورية والتي ادّت كما سبق وذكرنا، الى اقتصاد يعتبر من اهم اقتصادات العالم.
ان عملية مكافحة الفساد هذه أتت في وقت دقيق وحاسم للبنان حتى ان الامور بدأت تأخذ منحى خطيرا جدا وطالت اسماء اعتبرناها لغاية الآن منزّهة عن اي فساد. وما تزال الامور لغاية الآن حساسة ولكنها بدأت تتبلور. واذا كنا نتساءل عن وجود اموال ضائعة، فإن المهم هنا هو ان تنجلي الامور ويتبين الفاعل والمفعول به ويتم استرداد الاموال للتخفيف من حدة ديوننا، واعادة الاعتبار لدولة باتت بحاجة الى هكذا عملية.
كلها امور تتطلب ارادة صلبة لا توافقا سياسيا انما دعما شعبيا غير مسبوق، وليس لأشخاص انما لفكرة اجتثاث الفساد من دولة اقل ما يقال فيها انها منهوبة، واذا لم تستقم الامور قريبا قبل بدء عملية التنقيب عن النفط تصبح الدولة قبائل تتحكم وتتقاسم الحصص ولا يصل للشعب فيها سوى الفتات.
وهنا تبرز عملية مهمة وعلى المسؤولين ادراكها وهي اهمية انشاء الصندوق السيادي وتحصينه في قوانين صارمة واختيار قضاة للاشراف عليه، كونه سيكون الاداة الفاعلة لإنقاذ البلد من مديونيته.
إنّ خبرة سنغافورة في هذه الامور جديرة في الاخذ بعين الاعتبار مع رئيس حكمها لمدة 40 سنة واستطاع ايصالها الى مصاف الدول العظمى من حيث الاقتصاد والاستثمار والتعليم حتى اصبحت تضاهي دول العالم المتقدم. لن يكون الاصلاح فاعلاً في لبنان ما لم يكن الجسم القضائي نظيفا وتُفتح ابواب السجون لكبار الفاسدين وهكذا تكون سنغافورة درسا وعبرة للبنان.