هدأت الأحوال الجوية، لكن تداعيات اجتياح المياه لمطار بيروت يوم الثلاثاء الماضي، ما زالت قائمة. فالتعليل الذي قدّمته المديرية العامة للطيران المدني، لما حصل قبل أيام، اقتصر على تقديم تفسير يتعلّق بحجم المتساقطات “الطوفانية” التي انهمرت بفترة زمنية قصيرة فوق نقطة محدَّدة، هي مطار بيروت، ولم تستطع مجاري التصريف ومضخّات مياه الأمطار استيعابها.
لكن ديوان المحاسبة، بصفته جهازاً رقابياً، لم يقفل الملف على ما جاء في بيان المديرية، بل فَتَحَ تحقيقاً بما جرى، معتبراً أن مشهد المياه في محيط المطار وداخله “يُظهِر خللاً في صيانة منشآت المطار وقاعاته وتجهيزاته، وهو ما لا يليق بمؤسسات الدولة ومواطنيها والقيّمين عليها بأي شكل من الأشكال”. فهل سيكشف الديوان معطيات جديدة تحسم الجدل القائم حول سبب ما حصل، منعاً لتكراره؟.
تحقيق لا تشكيك
مشهد المياه داخل حرم المطار وفي محيطه، تجاوَزَ اعتياد اللبنانيين على مشاهد فيضان الطرقات وإغلاقها. فالمطار منشأة حسّاسة بالنسبة لأي بلد، وهو المدخل الرئيسي للبنان وأحد المرافق التي تدرّ أموالاً لصالح الخزينة. ولأن “المواطنين وجّهوا تساؤلات عبر مواقع التواصل الاجتماعي حول دور الأجهزة الرقابية في هذا الموضوع”، وجَّهَ ديوان المحاسبة كتاباً إلى وزير الأشغال العامة علي حمية، بوصفه وزير الوصاية على المطار، يستفسر فيه عن “ما حصل وعن دور وزارة الأشغال والشركات ذات الصلة في تأمين ومتابعة أعمال صيانة المطار”، وفق ما أكّده رئيس الديوان محمد بدران، الذي أكّد في حديث لـ”المدن”، أن الكتاب عبارة عن “أسئلة للوزير”. وهذه الأسئلة “لا تعني تحميل المسؤولية للوزارة أو أي طرف آخر، وإنما الهدف منها معرفة ماذا جرى لنحدّد ما إذا كانت الحادثة ظاهرة طبيعية أم خلل بالمنشآت نتيجة خطأ بشري”.
يريد الديوان أن يحقِّق إذاً. لكن لهجة الكتب، أي المذكّرة رقم 60، الموجَّهة للوزير حمية، صارمة بعض الشيء، وهي تتناسب مع مستوى الحدث. فما حصل “غريب ومستهجَن وغير مألوف، ويظهر خللاً في صيانة منشآت المطار وقاعاته وتجهيزاته. ومن شأنه تعريض حياة الداخلين والخارجين من المطار للخطر وأغراضهم للتلف والتعيب والضرر”.”، بحسب ما جاء في المذكّرة.
بين الطبيعة والبشر
تتداخل في هذا الملف مسؤوليّتان، الأولى طبيعية والثانية بشرية. ولأنه لا يمكن الإملاء على الطبيعة ما يجب القيام به ليتناسب مع يوميات البشر، يصبح عليهم هُم واجب التكيُّف مع الطبيعة والاستعداد لما قد تُقدِم عليه. خصوصاً وأن الظواهر الطبيعية تتكرَّر ويمكن رصدها والتنبّؤ بها أو بما يشبهها. وهو ما يؤكّده رئيس فرع التقديرات في مصلحة الأرصاد الجوية وسام أبو خشفة، في مغزى كلامه، إذ أكّد لـ”المدن” أن الأمطار التي هطلت فوق مطار بيروت “أتت نتيجة غيمة ارتفاعها نحو 10 كيلومتر، وتنخفض درجة حرارتها عند أعلى نقطة فيها، نحو 46- درجة. وهذه الغيمة تحمل كميات هائلة من البَرَد الذي يذوب تدريجياً كلّما انخفض نحو الأرض، ويتحوَّل إلى مياه”. وأوضح أن هذه الغيمة تتشكَّل “نتيجة الفروقات الحرارية التي تؤدّي إلى تشكيل خلايا رعدية وغيوم ركامية ضخمة تُنزل المياه بغزارة، وهذا أمر حصل في اليونان وإيطاليا”.
فروقات درجات الحرارة وتغيُّرها حول العالم، وكذلك في منطقة حوض البحر الأبيض المتوسّط، ليست حدثاً طارئاً، بل مُثبَت ومسجَّل. وكذلك “تأثير تبخُّر المياه بشكل كبير في شهر كانون الأول، وأيضاً غرق الكثير من الشوارع وأنفاق المطار بالمياه في شهر تشرين الثاني الماضي”. وهذ مؤشّرات تشهد بأن ما يحصل في لبنان ليس أمراً طبيعياً، وبالتالي هناك ما يجب فعله ولم يُنَفَّذ.
ما لم يُنَفَّذ، هو ما استندت عليه مصادر في مطار بيروت، لتقول في حديث لـ”المدن”، أن مجاري المياه في كل لبنان، لا تُنَظَّف بالمستوى المطلوب في الفترة الواقعة بين الصيف وبداية الشتاء، وهو ما يؤدّي في العادة إلى غرق الشوارع بالمياه”. أما أن ينسحب الغرق على المطار ويلقي البعض اللوم على حجم الأمطار “فهو أمر غير مقبول. فعلى الأقل، كان يجب إنجاز ما يلزم لناحية تنظيف المجاري والتأكّد من أنها جاهزة لمواجهة أي طارىء، علماً ان واقع الفيضانات والعواصف التي يشهدها لبنان عادةُ، لم تعد غريبة، وبعضها مُسَجَّل في أرشيف الرصد في مطار بيروت لكن المصادر توضح أن المسألة لا تحتاج للكثير من التحقيق. فسحابة “تنّين البحر” كما اصطلح على تسميتها، لا يمكن تحميلها المسؤولية، حتى في ظل سقوط “تحو 53 ليتر من المياه بالمتر المربّع الواحد، وكل ملم، يعادل ليتراً من المياه”، فالبيروتيّون يدركون أن ما يهطل اليوم ليس مستجداً، ولذلك تتجه الأنظار نحو مضمون النتائج التي سيخلص إليها ديوان المحاسبة مع الوزارة، “بغية تحديد وتسمية المسؤولين عمّا حصل واتّخاذ الإجراءات اللازمة بهذا الشأن”.