في سابقة تؤسّس لملاحقة المتعهّدين جزائياً، ومحاسبتهم على الأعطال التي تسبّبوا بها من خلال الإخلال بتطبيق عقودهم الموقّعة مع إدارات المرفق العام ومؤسساته، أصدر ديوان المحاسبة رأياً إستشارياً في دفتر شروط شركة INKRIPT، أجاز من خلاله بملاحقتها جزائياً أمام النيابة العامة التمييزية، بالإضافة الى إحالة ملفّها الى النيابة العامة التابعة لديوان المحاسبة. رأي الديوان ألزم الشركة أيضاً بتعويضات مالية عن كل الخسائر التي تسبّبت بها لخزينة الدولة حتى الآن، وذلك منذ أن أقفلت أبوابها نهائياً أمام المواطنين في شهر تموز الماضي، واحتفظت بمفاتيح إعادة تشغيل أنظمة الشركة التي التزمت مع هيئة إدارة السير والمركبات إتمام معاملات تسجيل السيارات، دفع رسوم الميكانيك وإصدار إجازات السوق والملكية واللوحات الآلية.
هذا الرأي وفقاً لمصادر قانونية يُفترض أن يشكّل نموذجاً يؤمّن للدولة «عصاً» تمكّنها من ضبط المتعّهدين، حتى يتسنّى لها محاسبتهم وحبسهم، ليس فقط بسبب عملية غش أو تأخير في تطبيق عقودهم، وإنّما أيضاً بسبب تعطيل المرفق العام. وهو يفترض أن يشكّل المقدّمة لتأمين إنتظام متعّهدي تشغيل الخدمات وتقيّدهم بالتزاماتهم، من ضمن القرارات التي اتّخذت لضمان إستمرار تسيير المرفق العام وسط الأزمة المالية القائمة، وأبرزها القرار رقم 13 الصادر عن مجلس الوزراء بتاريخ 14 نيسان 2022.
وكان «التعطيل» ورقة الضغط الأخيرة التي استخدمتها INKRIPT، وتوّجت بواسطتها مرحلة من نزاع مالي طويل مع الإدارة الرسمية، بعدما رفضت تقاضي مبلغ 60 مليار ليرة رصد لها عن عامي 2021 و2022 بسبب تدهور سعر صرف الليرة.
فالشركة التي كانت تطالب بمستحقّاتها بالفريش دولار، توقّفت في 11 تموز الماضي وبشكل نهائي ومفاجئ عن تنفيذ مهمّات عقدها. فيما المعلوم أنّ INKRIPT تمسك بمفاتيح تشغيل كل خدمات هيئة إدارة السير والمركبات، لكونها تتحكّم بأنظمة تشغيل تجهيزاتها المعلوماتية ورموزها، والتي يملكها موظّفوها فحسب. وهي قد رفضت تسليم هذه الرموز إلا بعد إنتهاء العقد وفسخه. وعليه، اعتبرت خطوتها التصعيدية مصادرة للمرفق العام وتجهيزاته، وكانت نتيجتها خلال الشهرين الماضيين تعطيل مصالح المواطنين، وفوضى عارمة وقعت فيها هيئة إدارة السير في ما يتعلق بإصدار رخص السوق وسير المركبات، بالإضافة الى تكبيدها خزينة الدولة خسائر فادحة، حدّدت بنحو 23 مليار ليرة يومياً. تجرّأت INKRIPT على فعل ذلك لأنّها ارتأت بأنّ القرار الحكومي رقم 13 المذكور، لا ينطبق على أعمالها. علماً أنّ هذا القرار يُعنى بمعالجة تداعيات إنهيار قيمة العملة اللبنانية على عقود الأشغال والخدمات العامة الموقّعة مع الدولة. إذ وضعت الدولة من خلال هذا القرار معادلة تطبق لإعادة التوازن المالي لعقود الأشغال والخدمات الموقّعة معها قبل الأزمة الإقتصادية وتدهور قيمة الليرة. وقد استندت في ذلك الى رأي إستشاري من قبل ديوان المحاسبة، والى كتاب لمجلس الإنماء والإعمار، يتضمّن مقترحات معادَلة لكل نوع من أنواع العقود الموقّعة، بما يضمن تحمّل الدولة والمتعهد أجزاء من الخسائر التي تسبّب بها تدهور قيمة الليرة، وبالتالي يؤمّن للمتعهدين تعويضات مقبولة بجزء من هذه الخسائر.
إلا انه على رغم شمول المعادَلات المذكورة كافة الإدارات والمؤسسات العامة والبلديات وإتحاداتها، كما أكدت الوقائع المثبتة لدى ديوان المحاسبة، إعتبرت INKRIPT أنها غير معنية بها، وطالبت بمعادَلة خاصة بها، تعتمد على إحتساب مستحقاتها بالدولار الطازج. ومن هنا كان توجه وزير الداخلية لطلب رأي ديوان المحاسبة في مدى إنطباق القرار رقم 13 على أعمال الشركة. حيث جاء رأي الديوان بتكييف عقد INKRIPT من ضمن عقود التشغيل التي تؤمن الخدمات، وبالتالي إعتبر أن العقد يدخل من ضمن قرار مجلس الوزراء، وله معادَلة معينة يفترض أن تطبق.
إذاً، INKRIPT ارتكبت مخالفة كبيرة من خلال التصعيد بالإمتناع عن متابعة عقدها مع الدولة في شهر تموز، وهي ملزمة بمتابعة هذا العقد حتى نهايته أياً كانت إعتراضاتها المالية، وفقاً لمصادر في ديوان المحاسبة. غير أنّ هذا لا يعني بأنّ مهلة عقدها لن تنتهي قبل عامين كما تدّعي. ففي الكتاب الذي وجهه وزير الداخلية الى ديوان المحاسبة، يطلب أيضاً رأيه القانوني المحايد حول تاريخ إنتهاء عقد الشركة. فشركة INKRIPT تعتبر أن من حقّها تجديد العقد سنتين إضافيتين وتربط ذلك بأمر مباشرة العمل. هذا في وقت تعرض الوزارة نص العقد الموقّع معها والذي يقضي بإنتهائه بعد خمس سنوات من أوّل إصدار لدفتر بيومتري، ممّا يعني إنتهاء عقدها في شهر أيلول الجاري. الأمر الذي وافق عليه ايضاً ديوان المحاسبة، وحدّد مهلة إنتهاء العقد في 20 أيلول الجاري، بالإستناد الى دخول العقد في المرحلة التأهيلية والى إصدار أول رخصة بيومترية. هذا مع إشارة الديوان الى ضرورة تضمين المهلة فترة تعليق المهل والتي يجب أن تحتسب وفقاً لمصادر قانونية بين الإدارة والشركة، بما يضمن إستمرار تسيير المرفق العام إلى حين إنهاء إجراءات تلزيم عملية التشغيل لشركة أخرى.
وإستناداً الى هذا الرأي الصادر عن ديوان المحاسبة، ترى مصادر قانونية في ديوان المحاسبة أنّ أمام الشركة خلال هذه الفترة حلّاً واحداً من حلّين، فإما أن تعود الى تنفيذ الأعمال المنوطة بها بموجب العقد حتى إنتهاء مهلته، أو هي ملزمة بالتعويضات التي ستتراكم عليها.
والمعلوم أن هيئة إدارة السير والمركبات لا تخضع لرقابة ديوان المحاسبة المسبقة، وإنما يمارس عليها الديوان رقابة لاحقة، أفضت الى إصداره في تموز عام 2022 قراراً قضائياً حكم من خلاله على رئيس وأعضاء مجلس إدارة الهيئة بغرامات مالية، نتيجة لمخالفات مرتكبة في مشروع التلزيم الذي طالب وزير الداخلية بالرأي الإستشاري حوله.
وعليه، فإنّ هذا الرأي الإستشاري أوصى أيضاً بفتح الدفاتر القديمة لـ INKRIPT، لمعرفة ما إذا كانت المبالغ التي تقاضتها وقد بلغت حتى الآن 184 مليار ليرة، موازية فعلاً لحجم السلعة التي قدّمتها للدولة. وبحسب مصدر قضائي في ديوان المحاسبة فإن هذه التوصية أرفقت بتحويل الملف الى النيابة العامة التمييزية لتأمين تدقيق الخبراء في كلفة العمليات المقدّمة. فإذا كانت هذه الاكلاف مبالغاً بها، معناها أن الشركة ملزمة بإعادة أموال للدولة، وليست محقّة بطلب معادَلات جديدة لمستحقّاتها. ولا يتوقف الأمر عند هذا الحدّ، لا بل يجب أن يسجن المسؤول عن توقيع العقد، وفقاً لما تؤكده مصادر قضائية مواكبة للملف.
وفي كل الاحوال، كانت توصية الديوان بضرورة المضيّ بإجراءات إطلاق مناقصة جديدة لتلزيم خدمات تشغيل هذا المرفق لشركة أخرى. فأياً كانت النتائج القضائية التي سينتهي إليها هذا الملف، يمكن القول بأنّ عهد INKRIPT بما شابه من جدل منذ تولت الشركة مهمّاتها، قد ولّى. غير أنه بالمقابل، فإنّ كل تأخير في الإجراءات المطلوبة للإنتقال الى مرحلة ما بعد INKRIPT، لا بد أن يمعن بإغراق طرقات لبنان في فوضى عارمة، من تسبّبوا بها، هم من أغرقوا هيئة إدارة السير والمصالح التابعة لها بفسادهم.