للمرة الثانية على التوالي، لم تتمكن وزارة الإتصالات من إتمام عقد تلزيم الخدمات البريدية، والتي حاولت أن ترسّيها في مزايديتين متتاليتين على تحالف شركة ميريت إنفست ش. م. ل. اللبنانية وشركة Colis Privé France. إذ فرمل ديوان المحاسبة حماسة وزارة الإتصالات بقرار أعلن فيه عدم الموافقة على المشروع المعروض، والذي حاول وزير الإتصالات الإلتفاف عليه من خلال طلب موافقة مجلس الوزراء على تفويضه بالتوقيع على مشروع العقد والمستندات التابعة له منذ 27 تموز الماضي، إلّا أنّ مجلس الوزراء أصرّ يومها على «استكمال الإجراءات المفروضة قانوناً لا سيما لجهة عرض العقد على ديوان المحاسبة»
وهكذا، بعدما كانت هيئة الشراء العام قد ألغت نتائج المزايدة السابقة التي رست على التحالف نفسه لما إكتشفته في العرض من «مخالفات جوهريّة» في قبول عرض «لا يراعي المقتضيات التي وضعتها الإدارة في دفتر الشروط الخاص بالتلزيم ويضر بالمال العام»، جاء رفض المشروع هذه المرة من قبل ديوان المحاسبة.
اذ دعا الديوان إلى العمل من دون إبطاء على إطلاق مزايدة جديدة تراعى فيها جميع الملاحظات والتوصيات، وإلى إعادة التلزيم على أسس علمية واضحة إنطلاقاً من دفاتر شروط تراعي معايير الشفافية والدقة والموضوعية والوضوح وعدم التعقيد والثبات. وقد رأى الديوان أنّ هذه المعايير افتقدت في دفاتر شروط المزايدات الثلاثة التي حاولت الجهة الشارية إتمامها، والتي تغيّرت بين مزايدة واخرى «فبسّطت الشروط ومعايير التقييم بما لا يضمن تنفيذ الصفقة وفقاً للغايات المقررة لها أساساً».
قرار ديوان المحاسبة هذا صدر عن الهيئة التي ترأسها القاضي عبد الرضى ناصر وتألفت من المستشارين محمد الحاج وجوزف الكسرواني، وقد بني على دراسة علمية لمجمل مسار عملية التلزيم بدءاً من الدعوة إلى جلستها الأولى وحتى جلسة التلزيم الاخيرة، متوخياً الشمولية بإجراء الرقابة.
وفيما تحدثت مصادر مواكبة لصدور القرار عن علامات إستفهام شابت الصفقة منذ بدايتها، كشف الديوان عن إخلال الإدارة بواجباتها في تطبيق قانون الشراء العام، والمبادئ القانونية ذات الصلة، في مختلف المراحل التي مرت فيها الصفقة، سواء من خلال إطلاق التلزيم من دون إعداد دراسة واضحة ومفصّلة لسوق الخدمات البريدية، أو من خلال مهلة الإعلان غير الكافية لتحضير العروض وتقديمها.
وبحسب ديوان المحاسبة أيضاً، فإنّ دفاتر الشروط المرفقة للمزايدات الثلاث حملت الكثير من الأخطاء والإستنسابية والغموض والتباينات، ما يجعلها دون المستوى المطلوب لتلزيم إدارة وتشغيل قطاع حيوي لمدة تسع سنوات.
كما اعتبر الديوان أنّ الإدارة أخلّت بواجباتها عندما قبلت العرض الوحيد المقدم من شركة MERIT INVEST بالتحالف مع COLIS PRIVE وذلك خلافاً للشروط المفروضة في الفقرة الرابعة من المادة 25 من قانون الشراء العام، خصوصاً وأنّ الصفقة تتعلق بتلزيم مرفق عام أساسي لمدة تسع سنوات.
هذا مع العلم أنّ التقرير توقف عند مؤهلات الشركة التي أعلن فوزها المؤقت والتي تبيّن للديوان بأنّها لا تقوم بإدارة مكاتب بريد بل نقل طرود لصالح الشركات التجارية أو الأفراد عن طريق موقع على شبكة الانترنت، ونقاط ترحيل شبكة من التجار. فيما شركة MERIT INVEST الشريك المسؤول في التحالف لا يملك أي خبرة بريدية.
وتوقف التقرير عند تعديل مؤهلات ومعايير التقييم المطلوبة في دفتر شروط المزايدة الثالثة وتبسيطها وتسهيلها، بشكل أمّن الفوز للعارض الخاسر في المزايدة الثانية بعدما أصبحت شروطها على مقاس مؤهلاته المهنية. وتساءل التقرير «كيف يمكن للإدارة أن تقوم بتعديل دفتر شروط يفترض أن يكون قد تم وضعه تماشياً مع حاجات تنوي تلبيتها أو أهداف تتوخاها من ذلك؟».
وكشف تقرير الديوان أيضاً عن دراسة تحليلية أجراها لمقارنة التفاوت الحاصل في الإيرادات المتوقعة بعد تبديل مخططات تقسيم الإيرادات بين المزايدتين الثانية والثالثة. فتساءل إذا كانت نسبة العشرة بالمئة التي وضعت في مخطط تقاسم الإيرادات متأتية عن دراسة مالية تحليلية لقطاع البريد، وآخذة بعين الإعتبار الأهداف الإستراتيجية المنوي تحقيقها من الصفقة. هذا مع العلم أنّه لدى تطبيق المخططين بناء لأرقام إفتراضية بحثاً عن مصلحة الدولة بأي منهما وفقاً لمصادر معنية، تبيّن ان هناك خسارة بنحو 5 ملايين دولار قد تنتج عن المخطط الأخير الموضوع.
وعليه خلص تقرير ديوان المحاسبة الذي أبلغت نسخة منه لوزارة الإتصالات، ولهيئة الشراء العام، والنيابة العامة في الديوان، إلى سلسلة ملاحظات أوصى بضرورة الأخذ بها وخصوصاً لجهة ضرورة وضع دراسة تحليلية للمشاريع والصفقات المنوي تلزيمها، والتقيّد بالمادة الأولى من قانون الشراء العام، وصياغة دفتر الشروط بطريقة واضحة وموضوعية وعلمية بحيث تكون خالية من الغموض والأخطاء على أنواعها. وذلك مع إعتماد إستراتيجية ثابتة عند إختيار المؤهلات المطلوبة بما يتناسب مع حجم المهام ونوع الأعمال المطلوبة، ويكفل تنفيذ الصفقات العمومة والمشاريع بالكفاءة والجودة المطلوبتين.
والاهم أنّ الديوان أوصى بإعطاء مهل كافية للعارضين لتقديم عروضهم قياساً على نوعية وأهمية وتعقيدات الصفقات والمشاريع المنوي تنفيذها. فهل تصل الرسالة واضحة إلى وزارة الإتصالات ومديرية البريد التابعة لها هذه المرة، فتتجنب الفشل في إتمام هذه الصفقة لمرة رابعة؟