لم يكن خافياً وراء السجالات العقيمة لعشرين جلسة حكومية للموازنة أن الموضوع ليس فقط إصلاحاً وأرقاماً بل لها خلفيات أبعد من مجرّد موازنة لإرضاء “سيدر” بعد أن أطلّت بوضوح ملامح المعركة الرئاسية المقبلة بعرض عضلات القوى السياسية ومن خلال الجدل الذي طرحه أداء وزير الخارجية جبران باسيل الذي استقطب الضوء في الجلسات محاولاً فرض نفسه بأنه الرقم الصعب في الموازنة.
لا يختلف اثنان أن دور باسيل تعدّى إطار كونه وزيراً سيادياً وخبير أرقام “يزيد وينقص” ويقارع وزراء اقتصاديين في شؤون وزاراتهم، وأن الموضوع أبعد من تخفيض وزيادة أرقام، فدَور وزير الخارجية الذي لم يكن عادياً قاده للاشتباك مع القوات حول بعض البنود كما اشتبك مع وزير المال علي حسن خليل حول شروط واقتراحات لورقة الموازنة.
يعتبر منتقدو باسيل أنه رجل بدون آفاق ولا حدود له، وبات يملك هامشاً كبيراً من الحرية للمناورة في كل الملفات، فهو قادر أن يوقف تشكيل الحكومة وأن يسيّرها عندما يشاء، وإليه تعود أمور البتّ بكثير من التعيينات القضائية والدبلوماسية والعسكرية والإدارية ممّا يجعله واحداً من المرشحين الأقوياء لمعركة الرئاسة بعد ثلاث سنوات وهذا الدور هو وراء الخلافات التي تعلو وتهبط كل فترة بين “التيار” و”القوات” والذي يتجدّد أيضاً عند كل مفصل مع “تيار المردة”.
هكذا فإن الموازنة اعتُبرت بوابة عبور لمعركة الرئاسة في العام 2022، فباسيل حاول أن ينتزع في الحكومة ما يُمكن من الموازنة وأن يسدّد ضربات لخصومه المسيحيين أولاً عبر هجوم قوي على “القوات” من ملف المهجرين إلى فرض تعديلات لا تتناسب مع ما تريده “القوات” فيما كان تأثير “المردة” في الموازنة أقل من الطرفين.
حسابات باسيل تنطلق من مرشحين منافسين أساسيين، رئيس “تيار المردة” سليمان فرنجية ورئيس “حزب القوات” سمير جعجع، وإذا كان باسيل يستفيد من علاقته اللامتناهية مع رئيس الحكومة والجيدة مع “حزب الله” فإن منافسيه يتحرّكون وفق معطيات وحسابات أخرى حيث يعتبر فرنجية أن كل معادلة دولية تتقاطع مع حسابات داخلية ترفع من أسهمه، وهذا ما يفسّر الحياد الإيجابي الذي يمارسه فرنجية في بعض المحطات، فيما يعتبر جعجع أنه قدّم ما يلزم في التسوية الكبيرة الماضية التي أوصلت عون إلى قصر بعبدا وأنه لو لم يقدّم تسهيلات لرئيس الحكومة سعد الحريري لترشيح فرنجية لكان رئيس “تيار المردة” اليوم رئيساً بدلاً من ميشال عون في بعبدا.
وإذا كان رئيس “حزب القوات” لن يُعيد الكرة هذه المرّة ليقطع الطريق على فرنجية فإن الطريق إذا سدّت في وجهه إلى بعبدا ستجعله ميالاً حتماً إلى خيار فرنجية بعدما قطعت المصالحة المسيحية بين “القوات” و”المردة” مساراً صعباً وأصبحت المصيبة “الباسيلية” تقرّب المسافة بين بنشعي ومعراب.
قد تكون أبرز المفارقات السياسية أن الأسماء المطروحة للرئاسة المقبلة جميعها شمالية، هكذا سيحصل السباق انطلاقاً من الملفات الداخلية اليوم بين رؤساء الأحزاب الثلاثة كل واحد على طريقته ووفق حساباته، جبران باسيل جال كل لبنان من أقصى الشمال إلى الجنوب والشرق والغرب وأطلق المشاريع السياسية والإنمائية من خلال ما يحتلّه من وزارات خدماتية، فيما رئيس “تيار المردة” يتكتك سياسياً ويُطلق نجله النائب طوني فرنجية خدماتياً وسياسياً ليتموضع هو على مسافة سياسية مع القوى الكبرى أما سمير جعجع فيتموضع على رقم مسيحي كبير ناله في الانتخابات الأخيرة.
ومع ذلك ثمّة من يعتبر أن الحركة الرئاسية الراهنة “حركة بلا بركة” فما يحسم الرئاسة هو الإزدواجية بين العوامل الداخلية والخارجية وأن الأمر مرتبط ليس بحسابات القوى وعلاقتها مع بعضها بل بتطورات المشهد الإقليمي بعد ثلاث سنوات.