نال رياض سلامة من الألقاب وحصد من الجوائز ما يفوق بعدده كل ما ناله نظراؤه في معظم دول العالم. فمن “حامي الليرة” إلى “عرّاب الاقتصاد اللبناني” مروراً بـ”ضمانة الاستقرار المالي” و”مهندس السياسات المالية”، بنى حاكم مصرف لبنان السابق جمهوريته الخاصة القائمة على الإنجازات والنجاحات العابرة للبلد والمنطقة، انطلاقاً من مصرف لبنان الذي تربّع على قمّته لأطول مدة بلغها حاكم مصرف مركزي في العالم: 30 سنة متواصلة.
تلك الجمهورية الخاصة قامت على إنجازات مالية ونقدية وصل صداها إلى أرجاء العالم، تحت مظلّة واسعة من العلاقات، وشبكة عريضة من المصالح المشتركة مع سياسيين لبنانيين وأجانب وشركات وكيانات محلّية ودولية. استمر قيام جمهورية سلامة لعشرات الأعوام إلى أن تزعزعت أساساتها من دون أن تسقط.
فتحت سنوات الأزمة المالية المستجدة في لبنان الباب على تجاوزات وارتكابات واستغلال سلامة لمنصبه، وشرّعت طرح تساؤلات عن شراكاته وعلاقاته وشبكة الحماية التي يتمتّع بها. فًتحت الملفات في الداخل والخارج وجوبهت بمواجهة شرسة للدفاع عن سلامة وتلميع ما تبقى من صورته. نفد من قضبان سجون أوروبا ولبنان، لكنه اعتلى منصة الاتهام بالأمس واصطُحب مخفوراً إلى إحدى “نظارات” وزارة الداخلية.
فمن هو سلامة؟ وما هي أبرز المحطات التي عبرها من رأس هرم السلطة النقدية وصولاً إلى كرسي الاتهام في وزارة الداخلية؟
من العالمية
من شركة ميريل لينش العالمية اكتسب رياض سلامة خبرته الواسعة في عالم المال، شغل منصب نائب رئيس الشركة قبل أن ينتقل إلى لبنان ويشغل أعلى منصب في السلطة النقدية. تم تعيينه حاكماً لمصرف لبنان عام 1993 بعد انتهاء الحرب الأهلية.
أعيد تعيين سلامة في منصبه عدة مرات (في الأعوام 1999 و2005 و2011 و2017)، فتولى مهام حاكم مصرف لبنان منذ عام 1993 وحتى نهاية شهر تموز 2023، حين غادر منصبه وفي جعبته الكثير من القضايا والتهم بالاختلاس وتبييض الأموال واستغلال السلطة والتواطؤ وغيرها.
لم يترأس سلامة المجلس المركزي لمصرف لبنان فحسب، بل ترأس أيضاً الهيئة المصرفية العليا، وهيئة التحقيق الخاصة المعنية بمكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب، وهيئة الأسواق المالية. تلك الهيئات التي كانت الشاهد الملك والشريك الأساسي لكل ما قام به سلامة من إنجازات وارتكابات وجرائم على حد سواء. وهي أيضاً الهيئات التي يتم تعيين أعضائها من قبل السلطة السياسية بناء على محاصصة طائفية وحزبية. ما يعني أنه لطالما كان لسلامة شركاء داخل وخارج مصرف لبنان.
رياض سلامة (مواليد 1950) الذي شغل مناصب رفيعة في أهم المؤسسات العالمية، منها عضو مجلس محافظي صندوق النقد الدولي وصندوق النقد العربي (عام 2012)، وترأس اجتماعات مجلسي محافظي البنك الدولي وصندوق النقد الدولي في طوكيو، وترأس مجلس الاستقرار المالي لمنطقة دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، ومجلس محافظي صندوق النقد العربي لسنة (عام 2013). تم اختياره عدة مرات من بين أفضل 9 حكام مصارف مركزية في العالم من مجلة “غلوبال فاينينس”، وحصد جوائز كثيرة كأفضل حكام المصارف المركزية في العالم، وأفضل حاكم بنك مركزي في الشرق الأوسط، من مجموعة أوروماني الدولية ومجلة The Banker وسواها العديد من الجوائز والأوسمة والألقاب من أهم المؤسسات والمنشورات المالية العالمية.
سلامة، وهو أول حاكم مصرف مركزي عربي يُقرع له جرس افتتاح بورصة نيويورك، ارتبط اسمه في لبنان بـ”استقرار الليرة”، وعلى الرغم من انهيار العملة الوطنية عام 2019 استمر سلامة بترداد عبارة “الليرة بخير” حتى أيامه الأخيرة في حاكمية مصرف لبنان.
…إلى السجن مخفوراً
ينقل أحد كبار المصرفيين في دردشة مع “المدن” عن رياض سلامة قوله “رياض سلامة يعني 1500 ليرة للدولار”، هذه العبارة قالها بنوع من التعالي على واقع مالي ونقدي بلغ ذروة الخطورة عام 2016 حين صارح المصرفي (يفضل عدم الكشف عن اسمه) سلامة بالأرقام المالية السلبية آنذاك، والتي كانت تنذر بكارثة وبانهيار دراماتيكي لليرة والقطاع المصرفي. ويقول المصرفي إنه بعد اطلاع سلامة على الأرقام المقلقة، طلب منه التحلي بالعقلانية والشروع بتحرير سعر الصرف تدريجياً تجنّباً للسقوط المفاجئ، فقال سلامة باستهزاء “طالما أنا موجود الدولار سيبقى بـ1500 ليرة”.
وشكّل ذلك العام (2016) انطلاقة الانهيار. إذ نفذ سلامة هندسات مالية أطالت من أمد استقرار الليرة وأعادت رسملة المصارف وراكمت مكاسب طائلة لعدد من المصارف، وشكّلت السبب الرئيسي لضياع الودائع وتعميق الأزمة المالية في لبنان. وقد تمت حينها بتغطية وموافقة من السلطة السياسية الداعمة لسلامة على مدار 3 عقود.
وقد شهد من كان يُعرف بـ”عرّاب الليرة” على انهيارها بين الأعوام 2019 و2023، وسرعان ما اتجهت أصابع الاتهام بانهيار الليرة إلى سلامة، وفُتحت أبواب ملفات مالية ونقدية بينها تراكم الديون واختلاس الودائع المصرفية وتسارع الأزمة.. وارتفعت معها حدّة الانتقادات للسياسات النقدية التي اعتمدها مصرف لبنان على مدار 30 عاماً.
وفي السنوات القليلة الماضية، واجه سلامة دعاوى قضائية في لبنان من عدة جهات بينها تجمعات مودعين وشخصيات قانونية وسياسية. لكن مسألة مقاضاته أو حتى التحقيق معه في لبنان لم تصل إلى خواتيمها يوماً، في ظل وجود ترسانة حماية لسلامة مؤلفة من سياسيين وقضاة.
انتقلت الدعاوى القضائية إلى الخارج، فواجه سلامة بين عامي 2022 و2024 دعاوى في فرنسا وألمانيا ولوكسمبورغ ودول أخرى، تشمل التزوير وغسيل الأموال والاختلاس والإثراء غير المشروع. وصدرت بحقه مذكرتا توقيف، جرى تعميمهما عبر الإنتربول. وقد تم على إثرها تجميد أصول مالية لبنانية بعشرات ملايين الدولارات، يشتبه بأنها تعود لرياض سلامة وعدد من أفراد عائلته، بينهم شقيقه وابنه.
أما ملفات الداخل فلطالما جهد قضاة وسياسيون لطمرها ووضعها في أدراج المحاكم. ونجحوا في ذلك على مدار السنوات الخمس الماضية. لتتفجّر بالأمس مفاجأة توقيف رياض سلامة من قبل القضاء اللبناني، بعد الاستماع إليه في قصر العدل في بيروت، في قضية شركة “أوبتيموم” للوساطة المالية. وهي القضية التي واجهت عدة محاولات لطمسها.
قد تخفي قضية “أوبتيموم” جرائم مالية قائمة على تفخيخ العقود مع مصرف لبنان وشراء سندات وبيعها، وتحقيق عمولات هائلة غير مستحقة. لكن ثمة ملفات أخرى تخفي ارتكابات جمّة بينها مراكمة أصول عقارية ومصرفية والعقود مع شركة “فوري”، والهندسات المالية، وتحويل أموال ورشاوى، وتبديد أموال عامة، وغيرها من الشبهات المرتبطة باسم رياض سلامة.
من هنا، لا يمكن الاستنتاج بأن صوت العدالة سيعلوا فوق أصوات الجميع.. ما لم يتم التوسع بالتحقيقات وفتح كافة الملفات المرتبطة بولايات سلامة المتلاحقة، والجرائم المشتبه بارتكابها، ومحاسبة الشركاء والمتواطئين والحامين له.