تحوّل نمط عيش شريحة من الطبقة الميسورة، أو بالاحرى التي كانت ميسورة قبل احتجاز ودائعها، من نمطٍ كان مبنيّا على استهلاك مختلف المواد الاساسية، الثانوية والفاخرة، والانفاق على السياحة والسفر والاستجمام والتسوّق، الى نمط يقتصر على استهلاك الحاجات الاساسية فقط، بعدما سلبتها السلطة الحاكمة والمصارف مدّخراتها وجنى عمرها!
وتلك الطبقة لا تشمل بالطبع كلّ من هرّب أمواله بعد الازمة الى الخارج وكلّ من لا يزال ينتج ويتقاضى مدخولاً شهرياً يكفيه للحفاظ على نمط عيشه القديم. وبين صفوفها من كان يصر منذ اندلاع الازمة المالية على عدم المساس بودائعه او الاستسهال في سحب جزء منها بقيمة تقلّ عن قيمتها الفعلية، اعتقاداً منه انه سيسترجعها في زمن قريب أو بانتظار ايجاد حلّ لأزمة الودائع لكن بدأ صبره ينفد.
وهناك ايضاً من فقد الامل بالشيء الكثير بعدما تم اذلاله لـسنوات بـ400 دولار شهرياً لا تكفيه لسداد فواتير الكهرباء والمولدات والمحروقات. وباتت تلك الطبقة التي تشمل عموماً المودعين من متقاعدين في القطاعين العام والخاص وأصحاب الدخل المحدود والمتوسط، لا تأبه لكيفية حلّ ازمة الودائع ولا لنسب الاقتطاع منها ولا لتاريخ استردادها، بل تسعى فقط الى رفع الحدّ الاقصى للسحوبات النقدية المسموح بها شهرياً من اجل تأمين أبسط حاجاتها من غذاء ودواء.
بعد اندلاع الازمة المصرفية والاحتجاز القسري للودائع، كانت شرائح من المودعين ترفض سحب دولار واحد من وديعتها بقيمة أقلّ من قيمتها الفعلية، لكنّ السلطة الحاكمة بالتعاون مع البنك المركزي وجمعية المصارف نجحت بعد 4 سنوات في التسبّب باصابتها باليأس، واستسلمت لدرجة ان البعض صار لا يطالب باسترداد ودائعه بل فقط بحفنة دولارات اضافية شهرياً على قاعدة: أعطنا دولاراتنا كفاف يومنا!
مقترحات الـ 151 والكابيتال كونترول
وبما ان جميع الأبواب والوسائل سُدّت امام البعض من أجل تأمين مدخول مادي يسنده، إن كان من خلال بيع عقار مثلاً، فهو ينتظر إما رفع سعر صرف السحوبات، وهناك من ينتظر تعديل التعميم 151 بحيث يتوقف الهيركات بعد الغاء سعر 15 الف ليرة للدولار مع امكان ان يقر مصرف لبنان لهؤلاء امكانية سحب 150 دولاراً شهرياً، او زيادة الحدّ الاقصى للسحوبات الشهرية عموماً وفق مشروع قانون الكابيتال كونترول الذي يلزم المصارف تسديد 800 دولار شهرياً. إلا ان لا الاحتمال الاول ولا الثاني يشفي غليل اليائسين. لان الاول، سيؤّمن لهم فقط حقهم في تثبيت قيمة وديعتهم في حال حصوله لدى اقرار الموازنة واعتماد سعر صرف 89500 ليرة للدولار، وسيقيّد في المقابل السحوبات ويُبقي على سقوف متدنية من اجل الحفاظ على حجم الكتلة النقدية المتداولة بالليرة في السوق وعدم زيادة التضخم. اما الاحتمال الثاني (سحوبات وفق الكابيتال كونترول) فهو صعب المنال وسط المعركة التي يشنّها مصرفيون وموالون لهم في السلطة التشريعية ضدّه، بسبب عدم قدرتهم على تأمين كلفة تمويله، وبسبب ما يعني اقرار هذا القانون والزامهم بالسداد لجهة شبه اعلان افلاس مصارف، خصوصا ان تلك المصارف لم تطبق لغاية اليوم التعميم 682 الذي يوّسع شريحة المستفيدين من التعميم 158! علماً بأن الالتزام بمبلغ 800 دولار شهرياً يعني ان وديعة الـ 100 الف دولار سيستغرق ردها نحو 10 سنوات وفق المعطيات القائمة اليوم.
ماذا بوسع منصوري؟
كيف إذاً سيستطيع حاكم مصرف لبنان بالانابة وسيم منصوري تحسين وضع المودعين في العام 2024، «عام الاستحقاقات المالية والمصرفية خصوصاً في ما يتعلق بكيفية استرداد الودائع»، كما وعد؟
أشيع ان منصوري يعدّ آلية وسيعلن عنها في الايام القريبة المقبلة تهدف الى تحسين وضع المودعين، ووسط التفاؤل الذي نشره رئيس الحكومة نجيب ميقاتي حول حلّ قريب لاسترداد الودائع، اوضحت مصادر حكومية لـ»نداء الوطن» انه لا يوجد في الأفق حلّ يستطيع مصرف لبنان او حاكمه بالانابة، وحده، ابتداعه لتحسين اوضاع المودعين او لزيادة سقف السحوبات، بل ان حلّ ازمة الودائع مرتبط بشكل مباشر وفقط بسلّة القوانين الاصلاحية التي تعمل عليها الحكومة والتي سترسلها الى مجلس النواب الشهر المقبل اما جديدة او معدلة وهي: قانون الانتظام المالي، وقانون هيكلة المصارف، وقانون الكابيتال كونترول الذي كان في عهدة السلطة التشريعية وفشلت في إقراره حتى الان.
واشارت المصادر الى ان حلّ أزمة الودائع سيكون ضمن قانون الانتظام المالي شارحة ان اقتراح الـ zero coupon bond او سند الاستحقاق من دون فوائد، الذي يتم الحديث عنه حالياً قد يندرج ضمن بنود صندوق استرداد الودائع، ويمكن بالتالي اضافته عند مناقشة القانون في مجلس النواب.
ربط كل شيء بسلة حلول
اما مصادر مصرف لبنان فقد أكدت ان منصوري نجح من خلال الطريقة التي سلكها في ادارة البنك المركزي والتي اوقفت السحب من الاحتياطي (لتمويل الحكومة) لا بل زاد ذلك الاحتياطي نحو 750 مليون دولار ليبلغ 9.3 مليارات دولار. ويعتبر منصوري ان هذه الطريقة ستدرّ اموالاً اضافية للبنك المركزي وستساهم نوعاً ما باعادة جزء من اموال المودعين. كما يرى منصوري ان التعميم 151 بحكم الملغى وان توحيد سعر الصرف وتحريره، عند اقرار الموازنة، سيساهم في تثبيت حقوق المودعين من جهة، ويمكّنه من جهة ثانية من ضخ المزيد من السيولة النقدية بالليرة في السوق، أي ان المودعين قد يتمكنون رغم التقييد القائم والمستمرّ للسحوبات، من سحب جزء أكبر من وديعتهم بالدولار وجزء آخر بالليرة من دون الاقتطاع منها، بالاضافة الى اقرار قانون الكابيتال كونترول الذي يحتاجه لتحديد سقوف أعلى للسحوبات الشهرية.
اما من خارج القوانين الاصلاحية المطلوبة، فان مصرف لبنان سيبقى مكبّلاً لناحية تحسين اوضاع المودعين وزيادة السحوبات الشهرية، ولا يسعه سوى اجراء بعض التعديلات على التعميم 158 على غرار التعميم 682 الذي اصدره سابقاً والذي لم تطبقه المصارف بعد. لذلك يسعى منصوري، بانتظار اقرار القوانين المطلوبة، الى دعم احتياطي البنك المركزي مما يساهم في دعم صندوق استرداد الودائع، مع الاشارة الى ان عمليات دمج المصارف او بيع بعض المصارف الصغيرة قد تساهم وفقاً له، بضخ الاموال وتصبّ في صالح المودعين إلا ان هذا الامر يبقى أيضاً مشروطا باقرار قانون اعادة هيكلة المصارف!
نواب الشعبويات المتاجرون بحقوق المودعين
انتقدت مصادر حكومية من سمتهم نواب الشعبويات وقالت: لا يعرف بعض النواب الا رمي المسؤولية على حكومة نجيب ميقاتي وقبلها حكومة حسان دياب على صعيد قضية الودائع. علماً ان حكومة دياب كانت قدمت مقترحات اسقطها النواب وكذلك فعل النواب في مقترح قانون الانتظام المالي الذي قدمته حكومة ميقاتي. وتسأل مصادر مطلعة: لماذا لا يلجأ هؤلاء النواب الى اعداد مشروع قانون وتقديمه للنقاش ثم اقراره بمعزل عن اي طرح حكومي؟ وتضيف: معظم الكتل الوازنة في مجلس النواب متفقة على ضرورة رد اموال المودعين لاصحابها، وبالتالي يمكنهم التوافق سريعاً على صيغة لتحقيق هذا الهدف من خلال مشروع قانون منبعه مجلس النواب نفسه. اما الاستمرار في رمي المسؤولية على الحكومة بذرائع مختلفة فصار ممجوجاً خصوصاً انه يمكن للجان النيابية المعنية استدعاء من تشاء من مصرف لبنان ولجنة الرقابة على المصارف للوقوف على حقيقة الارقام لا سيما تقييم موجودات البنوك الموجود بتفاصيله عند لجنة الرقابة.