تتطلب اعادة هيكلة القطاع المصرفي كفاءات محترفة تعمل بين 6 و12 شهراً. وكلما تأخرنا في ذلك تكبر الخسائر ويستمر الاقتطاع القسري من الودائع (الهيركات). ليس صحيحاً القول ان الحل سريع، فاذا بدأنا اليوم، قد نصل الى نتيجة ما بنهاية العام.
وفي الأثناء، هناك خسائر إضافية تتراكم وتزيد معها الفجوة. كما ان الوقت المستغرق يكبّد مصرف لبنان مبالغ من الاحتياطي لتغطية استيراد القمح والبنزين والدواء. ما يعني أن الاحتياطي الباقي في البنك المركزي يتناقص يومياً، وعلينا الاسراع في الاصلاحات اليوم قبل الغد. بنتيجة اجراء تدقيق، ودرس جودة أصول كل بنك مقابل ما عليه من مطلوبات سنعلم اذا كان المصرف متعثراً أم لا. وتلك العملية يجب أن تتم وفقاً للمعايير الدولية لا سيما المعيار المحاسبي الدولي التاسع IFRS 9 المؤجل تطبيقه حالياً من قبل مصرف لبنان. بتطبيق قانون اعادة الهيكلة وفتح دفاتر كل بنك على حدة نحصر المشكلة، ونعلم سبيل معالجتها، كما سنعلم أسباب التعثر.
إستعادة الأموال التي خرجت بعد 17 تشرين 2019
لكن قبل ذلك هناك خوف من مسألة تمرير مشروع قانون الكابيتال كونترول من دون الأخذ في الاعتبار الأموال التي خرجت بعد 17 تشرين 2019. هذه الأموال التي تقدر ما بين 7 الى 10 مليارات دولار يجب أن تعود الى النظام المصرفي. لا يمكن القبول بحماية المصارف من جهة، ومن جهة اخرى عدم محاسبتها على الاستنسابية في التحويلات التي حصلت. عودة تلك الأموال هي من شروط نجاح اعادة الهيكلة المصرفية التي تحتاج الى قانون.
كما ذكرنا، فان المطلوب تطبيق المعايير الدولية وتحديد الخطوات اللازمة للمعالجة حسب درجة تعثر كل بنك. وهنا ستطرح اسئلة من نوع: هل يمكن دمج بنك بآخر؟ هل يضع البنك المركزي يده على البنك المتعثر لدرس امكان بقائه ام لا… ولذلك نحتاج الى هيئة مستقلة منعاً لتضارب المصالح.
هيكلة المصارف ومصرف لبنان وتعديل قانون النقد والتسليف
علماً بأن الهيكلة ليست مطلوبة للمصارف فقط، بل إن القانون الخاص بها سيشمل أيضاً هيكلة البنك المركزي لنعرف ماذا حصل فيه، وكيف يجب ان يعدل أو يحصن قانون النقد والتسليف، وهو قانون جيد عموماً لكن هناك بعض المواد التي يجب تعديلها لا محالة خصوصاً تلك المتعلقة بكيفية تمويل مصرف لبنان للدولة. إذاً، لا مجال لاعادة هيكلة المصارف من دون اعادة هيكلة مصرف لبنان مالياً وحوكمياً ونظامياً واجراء تدقيق جنائي لمعرفة اسباب الفجوة وتحديد المسؤوليات. في الشق النظامي نتحدث عن تعديل قانون النقد والتسليف للحؤول دون اقراض الدولة وتمويل الكهرباء وتغطية الدعم… لأن كل ذلك ليس من صلب عمل البنك المركزي.
هيئة رقابية جديدة ومستقلة… حارسة لأبواب افضل الممارسات
وهنا يأتي دور الهيئة المستقلة التي يجب أن تؤسس وبين مهامها الرقابة الدائمة ليس على المصارف وحسب بل على البنك المركزي أيضاً. هذه الهيئة هي الحارسة لأبواب الممارسات المالية والمصرفية والفارضة لأفضل التطبيقات الدولية السليمة.
عدم التجديد لولايات الحاكم ونوابه
على صعيد الحوكمة، يفترض ألا يجدد للحاكم كما حصل في لبنان منذ التسعينيات الى اليوم. اقترح ألا يسمح للحاكم بشغل ولايتين متتاليتين. عدم التجديد يصعب مسألة الضغط على الحاكم ليفعل ما تريده السلطات السياسية. وعندما نمنع التجديد للحاكمية لولايتين متتاليتين ينسحب ذلك أيضاً على اعضاء المجلس المركزي بما في ذلك نواب الحاكم. تغيير الأشخاص اكثر من ضروري لتحسين الأداء وتجديد الدماء ولزيادة صحة الحوكمة وتحاشي الاخطاء مع الزمن.
جدار صيني بين الحاكمية وهيئة الاسواق
الى ذلك، هناك اعادة هيكلة لأعمال لجنة الرقابة على المصارف وهيئة الاسواق المالية وهيئة التحقيق الخاصة. يجب وضع ما يسمى بالجدار الصيني بين مصرف لبنان وهذه الهيئات، لا سيما هيئة اسواق المال التي هي سلطة مستقلة تماماً عن المصارف والبنك المركزي.
يجب فصل حاكمية مصرف لبنان عن رئاسة هيئة الاسواق المالية CMA وذلك وفقاً لافضل المعايير والممارسات الدولية. كما يجب فصل لجنة الرقابة عن مصرف لبنان ولا تكون شبه موظفة لديه كما هي حالياً، وذلك لتعمل باستقلالية تامة وكاملة، ومرتبطة بالقضاء المالي أو أي صيغة تخولها التدقيق بحرية في البنك المركزي والمصارف على حد سواء.
إستقلالية كاملة لهيئة التحقيق الخاصة
وكذلك الأمر بالنسبة لهيئة التحقيق الخاصة المفروض ان تكون مستقلة عن مصرف لبنان لأسباب وجيهة كثيرة. على سبيل المثال لا الحصر، لهذه الهيئة حق التحقيق في حسابات موظفي مصرف لبنان، فكيف تفعل ذلك باستقلالية وحيادية وشفافية اذا كانت مرتبطة وظيفياً بالحاكمية؟ لذا يجب فصلها ومنحها الاستقلالية عن البنك المركزي.
حوكمة المجلس المركزي ومنع ازدواجية الرواتب
أما بالنسبة للمجلس المركزي فعليه ان يصوت بدراية ومسؤولية. وعلينا أن نعلم كيف يتصرف اعضاء هذا المجلس مع ما يطرح عليهم من جداول أعمال لا سيما أن بينهم نواباً للحاكم. وهناك في المجلس أيضاً مدير عام وزارة المالية ومدير عام وزارة الاقتصاد، فهل يجوز ان يقبض هذان راتبين، واحد من اداراتهم الاصلية وآخر من البنك المركزي؟ عندما تضع الدولة في مصرف لبنان أعضاء حكوميين ليس عليها أن تدفع لهم راتباً ثانياً منعاً لتضارب المصالح والعمل باستقلالية كاملة. وعلى المعنيين التعامل بشفافية مع كل الامتيازات التي يحصل عليها كل هؤلاء لا سيما نواب الحاكمية خصوصاً امتيازات السفر والقروض.
مفوض الحكومة حاكم ثان… لذا الدولة مسؤولة عما حصل
أما مفوض الحكومة في مصرف لبنان فهو عبارة عن حاكم ثان، يتمتع بصلاحيات لا يستهان بها مثل حق الطعن بأي قرار خلال 48 ساعة وذلك وفقاً لقانون النقد والتسليف. ومن هنا تأتي صحة الكلام عن مسؤولية الدولة عما حصل ويحصل، لأن لديها من يمثلها مباشرة في المجلس المركزي لمصرف لبنان ولديها القدرة على اتخاذ الاجراءات اللازمة لوقف اي قرار يعرض النظام والمالي والاقتصادي للمخاطر. يجب تفعيل وتحصين دور مفوض الحكومة ليقوم بمهامه التي نص عليها القانون.
خسائر بند موجودات أخرى… تفاقمت خلال 10 سنوات
على الصعيد المالي، هناك فجوة في مصرف لبنان تقدر حالياً بنحو 70 مليار دولار، لكننا لا نعلم اذا كان الرقم دقيقاً. على الأرجح، تتراوح الفجوة بين 65 و80 ملياراً، وكان يسجل ذلك تاريخياً في بنك «موجودات أخرى» في ميزانية مصرف لبنان.
وعند النظر في ذلك البند خلال آخر 10 سنوات سنجد كيف تفاقمت تلك الخسائر بسرعة خيالية. لم يكن مصرف لبنان يسجل خسائر بشكل مباشر، لا بل كان يوزع على الدولة أرباحاً بنفس المقدار سنوياً. ذلك التوزيع تكرس على الرغم من ان بند «موجودات أخرى» كان يراكم خسائر متأتية من جملة أسباب أبرزها تثبيت سعر صرف الليرة والدعم والكهرباء، كما كان وما زال يدفع شهرياً للمصارف فوائد شهادات الايداع المصرفية بنسب تراوح بين 7 و10%.
يذكر ان بند موجودات اخرى له ما يبرره، لجهة امكان اعادة تحصيل الاموال عبر الزمن بشرط ان يسمح النمو الاقتصادي بذلك، اضافة الى شرط عدم تخطي هذه الخسائر مستوى معين اي ما نسبته 5 الى 10% من الميزانية. وهذا مستحيل حالياً. وجدير بالذكر ان هذه الفجوة ليست بالعملة الوطنية مما يجعل سدادها مهمة مستحيلة خصوصاً وان ميزان المدفوعات سلبي.
تشابك ديون الدولة ومصرف لبنان والمصارف
لمصرف لبنان في ذمة الدولة ديون سندات بالليرة تقدر بين 60 و65 مليار دولار تضاف اليها سندات يوروبوندز بقيمة 5 مليارات دولار (على سعر 1500). في الاجمالي العام هو يحمل 65 الى 70 مليار دولار من اصل نحو 100 مليار دين عام. يقابل ذلك 70 ملياراً دين عليه ازاء البنوك. بكلام آخر: اذا سددت الدولة ما عليها لمصرف لبنان يستطع هو سداد ما عليه للبنوك. انما المشكلة تكمن في ان معظم الدين على الدولة بالليرة مقابل دين بالدولار للمصارف في ذمة البنك المركزي. كان ذلك مقبولاً ايام ثبات سعر الصرف، واليوم لا بد من التنبه لمخاطر ذلك عند توحيد اسعار الصرف.
الدولة ليست مفلسة وعليها مسؤولية رسملة البنك المركزي
على الدولة اعادة هيكلة رأس مال مصرف لبنان بالاضافة الى هيكلة موازنته لسداد القرض المتوجب عليها. صحيح أن الدولة متعثرة ومديونة، لكنها ليست مفلسة ويقع على عاتقها مسؤولية رسملة المصرف المركزي وفقاً لمادة صريحة في قانون النقد والتسليف. لدى الدولة أصول قابلة للتطوير. ومع تطوير فعال خلال 5 الى 10 سنوات قادمة يمكن بناء توقعات للايرادات المتعاظمة مستقبلاً، ويمكن خلق أصول جديدة أيضاً نضعها في صناديق سيادية لتطويرها مثل ترخيص لشركة مثل يوروديزني عملاقة مع اعفاءات ضريبية. هكذا مشروع يخلق فرص عمل كثيفة ويجذب ملايين السياح مع ما يعني ذلك من تدفقات للعملات الاجنبية.
مثال آخر عن حسن ادارة الاصول، فلننظر الى كيفية ادارة الكازينو وشركة الميدل إيست من قبل مصرف لبنان للتأكد من امكان الربح من الاصول العامة، علماً بانه يمكن تحسين الاداء اكثر في هذين المرفقين مع زيادة الحوكمة.
عقارات شاسعة مقابل 60 مليار دولار على سعر 1500
ما اريد قوله ان مصرف لبنان يعلم كيف يحمل أصولاً ويديرها ويطورها. لذا بالامكان انشاء صندوق سيادي نضع فيه اصولاً عامة (مثل عقارات شاسعة ) نقيّمها بـ 60 مليار دولار على سعر 1500 ليرة للدولار. يقوم مصرف لبنان بتسنيد وحدات هذا الصندوق وتطويره على مدى 20 سنة. ومن الايرادات المحصلة يمكن تمويل الدولة، وسد فجوة مصرف لبنان وبالتالي تسديد حقوق للمودعين مع الوقت وتدريجياً، ونمنح الدولة خياراً يسمح لها اعادة شراء هذه السندات (بالسعر الاسمي الاولي) عندما ترى ان لديها القدرة على ذلك.
ولأن الدين داخلي، ولأن مصرف لبنان مملوك للدولة على الصعيد الهيكلي والرأسمالي، فبشخطة قلم نقفل دين مصرف لبنان بذمة الدولة ونبدأ جدولة دين المصارف بذمة مصرف لبنان. نقول للمودع انتظر، ستحصل على حقك مع الوقت وإلا فلا أموال ستسدد بالكامل كما تطرح الحكومة حالياً.
كلما اسرعنا في تطوير المشاريع والاصول، نسرع في سداد اموال المودعين. ومع تخفيف نسبة الدين العام الى الناتج وخطة تعاف اقتصادي هدفها الأولي حفظ اموال المودعين، ومن خلال ادارة جيدة للصندوق السيادي نعود لاستقطاب المستثمرين الخليجيين والاجانب. في نهاية المطاف نحن نبحث عن الثقة وكيفية استعادتها، وما نطرحه هو افضل سبيل الى ذلك الهدف.
بدء رد ودائع للجميع بلا استثناءات بعد 5 سنوات
نحن نحتاج الى 5 سنوات على الاقل حتى يبدأ المودع، سواء كان كبيراً او صغيراً ومن دون اي استنسابية، استعادة بعض امواله تدريجياً. اذا طبقت الخطة بسرعة وبادارة فعالة وحوكمة جيدة خلال 10 سنوات يمكن رد حوالى 70% من حقوق المودعين.
تبقى الاشارة الى أننا نحتاج الى كفاءات اجنبية ولبنانية محترفة لادارة الصندوق السيادي بمجلس ادارة من لبنانيين يمثلون الدولة ومصرف لبنان ومستقلين من قضاة ومن هيئة مكافحة الفساد. ليست الصعوبة في تأسيس الصندوق بل في ايجاد اشخاص لمجلس ادارته مكلفين بادارة كل هذه المشاريع بكفاءة ونزاهة وبانتاجية عالية.