بعدما تبارى النواب على مدى ثلاثة أيام أمام وسائل الاعلام، لإظهار مدى حرصهم على المال العام وتحقيق مبدأ الرقابة والشفافية، أُقرت موازنة 2024. لكن ذلك لم يعفها من تلقي السهام والانتقادات من بيت أبيها (أي بعض النواب الذين عدّلوا موادها)، وحتى بعد إقرارها لا تزال تزخر بالعديد من المواد التي تشكل مادة خصبة لسؤال هؤلاء النواب عن مدى ترجمتهم لشعار «الحفاظ على مصلحة الدولة»، الذي يرفعونه عبر تشريعات تمكّن من محاسبة المرتكبين. إحدى هذه المواد هي المادة 59 من الموازنة والتي تسمح بتأجير أملاك الدولة الخاصة لفترات تصل الى 18 عاماً، وتمّ تخفيضها خلال النقاشات الى 9 سنوات. وبحسب الخبراء، القانون اللبناني يسمح بالتأجير 4 سنوات فقط. فهل يعني إقرار هذه المادة تمهيد الطريق لاستغلال هذه الاملاك من قبل النافذين وحُماتهم السياسيين على جري العادة؟ خصوصاً أن الخبراء يجزمون بأن «الامتثال لقانون الشراء العام لإتمام هذه الايجارات، لا يقدّم أي ضمانة جدية لحفظ حقوق الدولة اللبنانية، ويعتبرون هذه المادة مثالاً فاضحاً على «فرسان الموازنة»، التي لا ينبغي تضمينها في الموازنة أساساً.
العبرة في التنفيذ الصحيح
من جهته يشير رئيس المجلس الاقتصادي – الاجتماعي شارل عربيد لـ»نداء الوطن» أنه «لا يعرف كيف سيتم تنفيذ هذه المادة، ولكن في حال كانت هناك آلية تضمن الشفافية في تطبيقها فهذا أفضل. فالدولة هي مالكة لهذه الاراضي ويحق لها ايجار أملاكها واستئجار أملاك خاصة، وهذه المادة هدفها زيادة واردات الدولة»، معتبراً أن «المهم ألا يفرطوا بهذه الواردات وتدخل المحاصصة والحسابات السياسية فيها، والعبرة هي في تطبيق هذه المادة بطريقة شفافة ومحقة ومضمونة».
ويختم: «لا أريد أن أحارب نوايا لأنها لا تفيد. علينا مراقبة كيفية التطبيق لنعرف اذا كان هناك ثغرات أم لا. والأهم هو أن يتم الاعلان عن اي خطوة تريد القيام بها لزيادة ايراداتها».
إلغاؤها ضرورة!
تشرح مديرة السياسات العامة في «كلنا ارادة» سيبيل رزق لـ»نداء الوطن» أن المشكلة الاساسية في هذه المادة (59) أنها من المواد المصنفة بأنها «فرسان الموازنة»، ومن المفروض أن تُلغى طالما أن لجنة المال قد أعلنت أنها حذفت من المشروع كل ما تم تصنيفه «فرسان موازنة». وسبق أن أُلغيت مادة مشابهة لها في مشروع موازنة 2022 خلال مناقشات الهيئة العامة، وبالتالي كان من الأجدى أن تصوّت الهيئة العامة لصالح إلغائها على اساس انها من ضمن فرسان الموازنة أيضاً».
تشدد رزق على أنه «لا يجوز فتح المجال أمام تأجير املاك الدولة لفترة تعتبر طويلة (18 عاماً) في ظل الازمة التي نعيشها. في القانون الحالي، الفترة التأجيرية لا تتخطى الاربع سنوات، وتأجير أملاك الدولة يجب أن يكون ضمن شروط قانونية مدروسة، اي في مشروع قانون أو مسار قانوني منفصل وليس من ضمن مادة في الموازنة من دون دراسة كافية». موضحة أن «عدم جواز التأجير لفترة طويلة لسببين، الأول: أننا في ظل انهيار مالي ولا يمكننا التحديد بشكل مناسب فترة الاستغلال، وأيضاً قيمة العقد إذ إنه في الوقت الحالي لا يمكن تحديد قيمته على فترة زمنية طويلة. والسبب الثاني هي أداة الرقابة، إذ لا يكفي لقانون الشراء العام لنطمئن ان كل التفاصيل مراقبة وتحفظ حقوق الدولة اللبنانية، ونحن نعرف كيف تحصل الصفقات في الدولة».
وتختم: «الضمانات لتأجير أملاك الدولة هي تحديد الاساس المالي لبدل الايجار، وهذا يحتاج الى دراسة مالية وقانونية. الرقابة يجب أن تتم على هذه الناحية، ويجب تحديد الاملاك المنوي تأجيرها ولماذا؟ وما هي الجدوى الاقتصادية والاجتماعية منها، والتأكد من أن الدولة هي التي تستفيد مالياً وليس النافذون في الدولة اللبنانية».
مادة خطرة بتوقيت سيئ
يقول المحامي نزار صاغية لـ»نداء الوطن»: «هذه المادة خطيرة جداً لأن القانون اللبناني ينص على أن مدة الايجار لا يجب أن تتعدى الاربع سنوات، في حين ان المادة كانت تنص على أن الايجار يمكن ان يمتد لغاية 18 عاماً، وهذا يعني أنه يمكن ايجار اراضي الدولة لهذه المدة، ونحن في أسوأ فترة مالية من الناحية المؤسساتية»، مشدداً على أن «الخوف هو تدهور سعر صرف الليرة اللبنانية أمام الدولار بشكل أكبر بعد تأجير اراضي الدولة بأسعار بخسة ولمدة طويلة، وهذا يعني أن هناك من يستأجر املاك الدولة ويستفيد منها من دون أن يدفع البدل الحقيقي والمستحق».
يضيف: «موقفنا هو أنه حالياً ليس الوقت المناسب لفتح مجال لإستعمال أراضي الدولة وعرضها للإيجار، قبل أن تستقيم المؤسسات ويعود عمل المؤسسات الرقابية كما يجب. المادة بحد ذاتها ليست غير دستورية ولكنها خيار تشريعي واقتصادي واجتماعي سيئ جداً، ويعرّض أملاك الدولة للخطر بفعل الممارسة وليس بفعل النص. نحن نعتبرها خطرة لأننا نعرف الممارسة كيف تتم».
ويختم: «حين تبدأ الدولة بالدفاع عن أملاكها وتسترد الاملاك البحرية المعتدى عليها منذ عقود طويلة، عندها يمكن أن نصدق أن هناك من يحمي الدولة. واذا كان هذا الامر لا يحصل فكيف يمكن ضمان شفافية الصفقات التي تجري؟ وتأجير الارض لفترة طويلة هو أشبه ببيعها».
اين ضرائب الأملاك البحرية؟
من جهته يلفت الناشط في مجال المساحات العامة محمد أيوب، على جانب آخر الى «الاستهتار» الذي يمارسه المشرّع بحق مصلحة الدولة، فيقول لـ»نداء الوطن»: «من الناحية القانونية يحق للدولة تأجير املاكها الخاصة، ضمن معايير قانونية معينة لزيادة مردود الخزينة العامة بشرط أن لا يضر بالسلامة العامة او يتعدى على ملكية البلديات. لكن لا يحق لها تأجير أملاكها العامة، أي الشواطئ والانهار والغابات»، جازماً أنه في لبنان هناك تعديات على الاملاك العامة البحرية، فلماذا لم تلحظها الموازنة؟ علماً أن المتعدين على الاملاك البحرية يستفيدون منها بمئات آلاف الدولارات (6 ملايين متر مربع من الاملاك البحرية)، كما أن التعديات على الاملاك النهرية والمناظر الطبيعية لم يتم مسحها الى الآن».
ويختم: «لماذا لا تفرض غرامات مناسبة على هؤلاء المعتدين لزيادة تمويل الخزينة، طالما أن هذا الاجراء هو حق مكتسب من حقوق الدولة اللبنانية، ولماذا يتغاضى النواب عن ذلك؟».
الإيجار ضمن خطة عامة وشفافة
على ضفة المؤيدين لإيجار الاملاك الخاصة للدولة، يشرح نقيب أصحاب الفنادق بيار الاشقر وجهة نظره لـ»نداء الوطن» بالقول: «المطلوب في الاساس استعمال املاك الدولة المهملة بطريقة علمية ودقيقة، وضمن خطة وإستراتيجية واضحة بعيداً عن المحسوبيات. بمعنى أن لا يتم تصنيف مناطق زراعية على أنها مناطق صناعية أو للسكن. أي أن تكون معايير واضحة للتأجير ومن ضمن خطة عامة وشفافة»، مشدداً على أن «الهدف من ذلك هو عدم تغيير تصنيف هذه الاملاك. فالبقاع على سبيل المثال، هو منطقة زراعية واذا بنا نجده اليوم منطقة صناعية وسكنية، ولذلك المطلوب شفافية في التعامل مع أملاك الدولة، بما يحفظ حقوقها وينتج المردود الصحيح وبعيداً عن الاستغلال للنافذين الذي يحصل ونراه مراراً».
يرى الاشقر أن «الضمانات لتحقيق هذه المعايير يضعها المختصون، لكنه يشدد على أن هناك مئات ملايين الامتار التي تملكها الدولة اللبنانية وهي مهملة ومن دون استثمار صحيح. وبالتالي الأجدى إستثمارها بشكل قانوني وعلمي صحيح بعيداً من الاستغلال مع الحفاظ على الاهداف الاجتماعية والاقتصادية التي يجب أن تحققها هذه الخطوة (تأجير أملاك الدولة)».
ويختم: «بمعنى آخر نريد رؤية تحفظ عدم تغيير معالم البلدات والقرى، وأن تعود بالفائدة ليس فقط على المستأجر بل للبيئة الاجتماعية والاقتصادية التي تتواجد فيها هذه الاملاك، وخلق فرص عمل للسكان المحليين».
تشرح النائبة حليمة قعقور لـ»نداء الوطن» أن «المأخذ الاول على هذه المادة هو عدم وجود آليات ضبط لضمان حسن تطبيقها، خصوصاً أنه من المعروف أن هذه السلطة ستسعى لإفادة المحسوبين عليها وليس كل الشعب اللبناني على غرار ما تفعل في استغلال باقي المرافق العامة لصالحها (الاملاك البحرية مثالا)»، مشددة على أن «فترة 18 عاماً للإيجار تعتبر طويلة في ظل هذا الانهيار الحاصل وفي ظل التضخم المتزايد الذي نشهده، مما سيقلص قيمة بدل الايجار تباعاً».
وتختم: «خلال النقاشات اعترضت على مدة 18 عاماً، وبعد أخذ ورد تم اقرار المادة على اساس ان تكون فترة الايجار 9 سنوات غير قابلة للتجديد».