«في غمرة الموت تستمر الحياة…في غمرة الكذب تستمر الحقيقة…في غمرة الظلام يستمر الضوء» (المهاتما غاندي)
يلتئم مجلس النواب هذا الأسبوع وعلى جدول أعماله إجراء قراءة ثانية، والتصويت على القانون المتعلق بتعديل بعض مواد قانون سرية المصارف ونصوص ملازمة، بعد ردّه من قبل رئيس الجمهورية بموجب المرسوم رقم 10016 تاريخ 31/8/2022 لإعادة النظر فيه على ضوء ملاحظاته وملاحظات صندوق النقد الدولي. وذلك، بعد تعديلات شكلية وتضليلية أجرتها لجنة المال والموازنة في آخر جلساتها وهي لا ترقى إلى المبتغى المطلوب.
وعليه، يقتضي التنبيه والتنبه إلى مغبة تمرير قانون تعديل السرية المصرفية بصيغته المعدّلة من قبل لجنة المال والموازنة، لكي لا ينضم الى قافلة القوانين «الشكلية» غير النافذة وغير الناجعة وغير القابلة للتطبيق. ومن هذا القبيل، يمكن العودة بالذاكرة (إن لم تخذلنا) إلى العقدين الماضيين، حيث اتحفتنا المنظومة الفاشلة والفاسدة مع شركائها بطفرة قوانين عصرية وضرورية، وانما معطلة او حتى ميتة منذ الولادة. والامثلة كثيرة ولا تحصى، بدءاً بقانون الاتصالات وتعطيل دور الهيئة الناظمة الى قانون الكهرباء… الى التمثيل التجاري… واليوم قانون المنافسة… الى قوانين مكافحة الفساد والاثراء غير المشروع، وسواها من «التحف التاريخية» المنسية ! كلها قوانين ينقصها شيء، او فيها ثقب ونواقص او التباس ولبس متعمد يمنع تنفيذها والخروج بنتائج ايجابية وفعالة ومرضية تساعد البلد على النهوض والخروج من المأزق.
واليوم الشيء بالشيء يتكرر، ويحاولون، تحت ظلام الليل واضواء اتفاق الترسيم ومخاوف الفراغ الرئاسي، تمرير قانون السرية مع تعديلات تخالف توصيات صندوق النقد الدولي وهواجسه، التي تبناها واكد عليها بدوره رئيس الجمهورية، عندما اعاد القانون الى مجلس النواب لقراءة ثانية عملاً بصلاحياته الدستورية.
لا يظنّن أحد أننا نناور أو نسعى إلى تأخير مسار التعافي وإفشال المفاوضات مع الصندوق. القانون نريده اليوم قبل الغد وقد طالبنا به مراراً وتكراراً ، لا بل نريد رفع السرية المصرفية بالمطلق وليس بالقطعة والمفرق كما هو مطروح راهناً، وإن لم ننجح بعد. وذلك، لارساء قاعدة القيم والاصول التي ترتكز على أربعة أعمدة أساسية لا مفرّ من اعتمادها على المدى المنظور وهي: الشفافية والنزاهة والمحاسبة وعدم الافلات من العقاب. بيد أنه وبعد خمس عشرة سنة من الحرب والخطف والقتل، وخمس عشرة سنة أخرى من الاحتلال والذل والنهب، وخمس عشرة سنة تبعتها من تناتش الامتيازات وتقاسم المغانم والافراط في الصرف والهدر دون إعتمادات وموازنات وقوانين قطع حسابات، وخلالها كمٌ من الهندسات المالية المشبوهة والمشؤومة والتلاعبات والإحتيالات وتخطي للاصول والانظمة… لم نشهد بعد ولغاية تاريخه أية محاكمة فعلية لمسؤول أو مرتكب أو مجرد محاسبة ذاتية واحدة أو عزوف. لا إقالة ولا استقالة طوعية، مجرد تبرؤ ورمي المسؤوليات على الآخرين. وفي المقاعد المخصصة للمشاهدين والجمهور شعب خامل ومنصاع ومطواع ومرتهن لا يحاسب ولا يتحرك بل يكتفي باللعن والتذمر والتظلم والأنين.
شهدنا انفجار العصر وانهيار العصر وسطو العصر، ولم نحرك ساكناً، ولم ننتفض أقله على انفسنا، لا بل أمعنا في الجهل والتجاهل، وتمادينا في الحفاظ على المتسببين والمسؤولين وجددنا لهم البيعة والثقة.
نحن اليوم أمام مفترق طرق! إما ان نسلك طريق التعافي والتغيير الفعلي والحقيقي ونقبل بأن نحاسب، والاهم بأن نُحاسَب ونُحاسِب أنفسنا، أقله بقرارة أنفسنا أو أمام المرآة ولو عفواً، أملاً بأن نستخلص العبر والنتائج المفيدة لعدم تكرار نفس الاغلاط والوقوع في نفس المطبات. وإما أن نمضي قدماً في نفس العادات والتقاليد ونقر بالخسارة كقضاء وقدر، ونبرئ ذمة المرتكبين ونعيد العدادات الى الصفر. ونُقنع أنفسنا بقصورنا وضعفنا وعدم قدرتنا على التغيير، ونودع نهائياً طموحاتنا ورفاهيتنا وفكر المواطنة الحر والكريم…ومعها وهم الودائع والحقوق.
لا شك في أن قانون تعديل السرية المصرفية المطروح على الهيئة العامة يوم الثلثاء القادم يشكل منعطفاً واختباراً لتلك النيات. لانه حلقة من حلقات المحاسبة وأداة لعدم الافلات من العقاب. لذلك، وعلى غرار ما سبق وتحقق من نجاح نسبي على صعيد تعطيل مناوراتهم ومحاولاتهم الخبيثة السابقة لإقرار قانوني العفو العام والكابيتال كونترول، بهدف تبرئة الذمم وطمس «الجرائم»، فاننا مصممون اليوم على كشف وفضح محاولاتهم التضليلية والسعي المقابل إلى إقرار القانون، وانما مع تعديلات مخالفة لتلك التي اعتمدتها لجنة المال والموازنة بعد ان استبعدت نقابة المحامين من آخر جلساتها لكي لا تكون شاهدة على «الجريمة» وتحول دون ارتكابها. وهذه التعديلات التقنية المغايرة جرى تسليمها من قبلنا الى عدد من النواب المتطوعين للدفاع عن الحق والشرف خلال الجلسة، على أمل ان يحذو زملاؤهم حذوهم. مع العلم أن الموضوع قد أصبح حيث لا تشتهيه سفنهم أي تحت المجهر.